من جراب الأمس

سر البناء وعراقة المكان

تذكر الروايات المتوارثة على ألسنة المعمّرين في برجا أن بناء المسجد الكبير يعود إلى أيّام الإحتلال الصليبي، وأنّه كان في الأصل كنيسة ثم حّول المسلمون-بعد دحرهم الصليبين عن بلاد الشام- الكنيسة إلى مسجد، ويعزّز القائلون بذلك رواياتهم بشواهد ثلاثة:

أولاً: وجود جرن المعموديّة الذي لا يزال ظاهراً للعيان قرب النافذة الداخليّة عن شمال الداخل من الباب الشمالي الداخلي المؤدي إلى حرم المسجد. والمعموديّة هي أول أسرار الدين المسيحي وباب النصرانيّة، وهي غسل الصبي وغيره بالماء باسم الأب والإبن والروح القدس.

ثانياً: المدخلان المؤديان إلى حرم المسجد: الشمالي، وهو الباب الرئيسي، والغربي وهو باب صغير كان الداخل منه يضطر إلى الإنحناء، كان ذلك قبل توسيعه في الثمانينات من القرن العشرين، وهذا ما درج عليه النصارى في بناء كنائسهم بتخصيص مدخلين لها، أحدهما شمالي والآخر غربي.

ثالثاً: يروي المعمّرون من جيران المسجد عن أجدادهم أنّ جرس الكنيسة كان قائماً في المكان الذي شيّدت فيه المئذنة أواخر القرن التاسع عشر وتحديداً في العام 1894م.

فيما يتناقل بعض الباحثين والمهتمّين رواية تقول: “إنّ المسجد كان كنيسة، وأنّها بنيت في العهد البيزنطي”، وهذا لا يغيّر في الأمر شيئاً إذا عرفنا أنّ معظم الكنائس التي بنيت في عهد الصليبيين في لبنان طرازها شرقي على مثال الكنائس البيزنطيّة.

هذا ما يؤكده الأب لامنس في كتاب “تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من الآثار”. فإذا كان ذلك كذلك فلا يمكننا التحقّق من تاريخ البناء. هل هو في العهد البيزنطي؟ أم في الصليبي؟ وإذا صحّت الرواية فانّها تفيد بأنّ البناء أقدم عهداً ممّا تذكره الرواية الأولى.

وربما اتّخذه المسلمون الأوائل الذين قدموا مع الفتح الإسلامي لبلاد الشام وساحلها عام 16 للهجرة637 للميلاد واستقرّوا فيها اتخذوه مسجداً لاقامة شعائر الدين. “وحيث كان الخلفاء الأمويّون والعبّاسيّون يحكمون على سواحل البحر ومدنها وإذ رأوها هدفاً لسفن الروم وغاراتهم لم يزالوا يحصّنونها بالقلاع الحريزة التي لا ترام، ويستقدمون لحراسة الثغور المسلمين، العرب منهم والعجم،إلى أن صارت بلاد الشام في حوزة الفاطميين ملوك مصر فضغطوا على لبنان ودخلوا قسمه الجنوبي وأواسطه فاستولوا على أقاليمه: الخروب والتفاح والغرب ووادي التيم والفتوح وكسروان، تدلّ على ذلك آثار وجدت في قرى لبنان الشماليّة في مشارفه وأغواره”[1] ؛ ممّا جعل كثيراً من الناس يشيرون إلى أنّ المسجد بني مع الفتح الإسلامي.

“ومن الثابت عبر التاريخ في ساحل لبنان أنّ الأمر لمّا كان يستقرّ للصليبيين يلجأون إلى تحويل المساجد كنائس لهم ومعابد، هذا إذا لم ينشبوا معاولهم في الكثير منها، ووقائع التاريخ ومصادره تؤكّد ذلك، سواء في مساجد بيروت أو في مساجد صيدا.

فإذا ساءهم الزمن ودار عليهم كان من الطبيعي أن يعمد المسلمون في ذلك الحين إلى بعض الكنائس التي شادها الصليبيّون على أنقاض المساجد الإسلاميّة القديمة، وأن يعيدوها مرّة ثانية إلى ما كانت عليه من قبل”[2] .

ومن الناس من يستبعد كَونَ جامع برجا كنيسة، لأنّ حائط الكنيسة الشرقي في بناء الكنائس يكون مغلقاً دون نوافذ، وإن كان لا بدّ من نوافذ فتكون داخليّة، وبشكل مستطيل لتوضع عليها التماثيل وصور القدّيسين، بينما في جامع برجا الكبير نافذتان اثنتان في الحائط الشرقي تطلاّن على زقاق ضيّق يفصله عن بيوت قديمة ترقى إلى أقدم عهود السكن في برجا.

وقد ذكر غير واحد أنّ برجا كان يسكنها المسلمون والمسيحيّون، فالمسلمون كانوا يصلّون في قبو يسكنه بنو الغوش (عقار 2608) بحارة الجامع قرب آل البقيلي، بينما كان المسيحيّون يصلّون في الكنيسة، وهي اليوم الجامع، ويقال: إنّ المسجد “يعود إلى عهد المعنيين أو الشهابيين، فهندسته إسلاميّة عاديّة، يقوم بناؤه على أعمدة وركائز تبرز إلى الخارج في الجدران كغيره من المساجد في بيروت وصيدا التي بنيت في العهدين المذكورين” .

بعد استعراض هذه الآراء جميعها فإنّنا لا نجزم: هل كان البناء في العهد البيزنطي أم في أيام الصليبيين، ومن ثم أعدّ ليكون كنيسة، أم أنّه شيّد في صدر الإسلام ليقيم فيه المسلمون صلواتهم؟

ولكننا نميل إلى تأييد الرأي القائل بأن البناء قبل أن يكون مسجداً هذه المرّة _أي في زماننا هذا_ كان كنيسة بدليل وجود جرن المعموديّة إلى يوم قريب، والمدخلين الباقيين الغربي والشمالي، ومن الأمور التي تجعلنا نذهب  هذا المذهب استمرار المسجد من غير مئذنة الى العام 1894 الى أن سعى الشيخ عمر أفندي الخطيب عضو مجلس إدارة جبل لبنان الذي ساهم في تشييدها. وقد جرت عادة المسلمين في بناء مساجدهم أن يسارعوا إلى بناء ورفع المئذنة إثر الفراغ من عمارة المسجد.

أمّا النافذتان في الجهة الشرقيّة من المسجد فليست سبباً كافياً لردّ القول الذي نقول به، فطبيعة البناء لا تمنع من إدخال تعديلات عليه من قناطر ونوافذ وخلافها كلما دعت الحاجة والضرورة إلى ذلك.

وأما القول: إنّ البنيان رفع في العصر المعني أو الشهابي فهذا موضع نظر. فقد جاء في كتاب “المعالم الأثريّة والتاريخيّة في إقليم الخروب” للأستاذ أحمد يونس “أنّ تلال برجا القريبة من الشاطىء تشكّل حدوداً طبيعيّة لخليج النبي يونس من جهة الشرق، وقد اعتبر بعض المؤرّخين والرحّالة ومنهم رينان وكونتينو أنّ هذه المنطقة الممتدّة بين الساحل والتلال، تؤلف موقعاً تاريخيّاً وحضاريّاً واحداً خلال العهود القديمة، ولذلك يطلقون إسم برجا على كل المنطقة…

وقد كان رأي رينان أن إسم برجا مشتقّ من الكلمة اليونانية Toparchia ومعناها العاصمة أو القصبة، أو مركز المقاطعة…علماً بأن موقع برجا الحالي كان مأهولاً منذ أقدم العصور” .

إن ما ذُكر يؤكد أنّ برجا مأهولة منذ أقدم العصور، يدلّ على ذلك الآثار الرومانيّة المتناثرة على تلالها ووهادها، وذكرها في المناشير الإقطاعيّة في عهد الملك العادل نور الدين زنكي، ثم في عهد السلطان صلاح الدين الأيّوبي، ثم في عهد المماليك، هذه المناشير تثبّت أمراء بني بحتر التنّوخيين في إقطاعاتهم، ومنها مقاطعة الخروب، وفيها قرى برجا وبعاصير، من شوف صيدا الذين أظهروا كفاءة وقدرة عسكريّة في الجهاد ضدّ الصليبيين في الشرق، هاتان القريتان المهمّتان من الناحية العسكريّة وتمثّلان موقعاً متقدّماً في إقليم الخروب.

إن ما أورده المؤرّخون اذاً يثبت أنّ برجا عامرة بالناس منذ القدم على مرّ العهود، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن الدليل الذي قاد إلى القول ببناء الجامع في العصر المعني أو الشهابي، فإذا صحّ هذا الرأي، فإننا نسأل هنا : أين كان الناس قبل هذين العصرين يؤدّون عباداتهم _ سواء كانوا نصارى أم مسلمين؟ _ وهل يعقل أن تعمر هذه المنطقة ولا يتّخذ سكّانها مكاناً لشعائرهم الدينيّة؟
________________________

[1] – لبنان، مباحث علمية وإجتماعية.
[2] – تاريخ المساجد والجوامع الشريفة في بيروت- الشيخ طه الولي.

مقالات ذات صلة

‫31 تعليقات

  1. انه مقال رائع يبين لنا عظمة وتاريخ جامع برجا الاثري ……
    ونتمنى لكم دوام التقدم .
    كما نطالب بالمزيد من المقالات التي تحكي تاريخ هذا المسجد الكبير
    وشكرا

  2. لا يسعنا الا وان نعبر عن جزيل شكرنا وتقديرنا لمن هم وراء هذا العمل الفريد، الذين يسخرون طاقاتهم وابداعاتهم بشكل خلاق وبناء وفريد ليلقوا الضوء على هذا المسجد الذي لطالما كان ولا يزال و سيبقى انشاء الله برهانا ساطعا على مكانة برجا في المجتمع اللبناني المسلم ومنارة لكل طالب علم وتفقه في الدين.

  3. السلام عليكم، أشكركم على هذه المبادرة المميزة من خلال اطلاق الموقع الالكتروني الخاص بجامع برجا. اتمنى لكم الاستمرار بتقديم صورة جميلة عن جوامع لبنان وليس فقط هذا الجامع العريق.

  4. اود ان اشكركم أولاً، ولكن عندي بعض الملاحظات ارجو الله ان تكون بناءه :
    1- لا بد ان يكون الموقع شامل لجميع المكتوبات الاسلامية .
    2- لا بد ان يحتوي على بعض الصوتيات الاسلامية .
    3-لا بد ان يحتوي على مواضيع علمية تفيد الاجيال الناشءة من الامة الاسلامية .
    ….

  5. انا محمد عمر البراج من برجا الشوف مواليد 1974 مغترب فى مدينة الخبر المملكة العربية السعودية اتوجه بالشكر الى من كانت له يد المساهمة فى بناء هذه الصفحات القيمة والتى نعتبرها تاريخا بالنسبة لنا املين من المولى ان يوفقكم الى عمل الخير والاستمرار

  6. السلام عليكم ورحمة الله و بركاته

    بلال عدنان الخطيب من برجا الشوف مقيم بالمملكة العربية السعودية , اتوجه من العاملين على هذا الموقع بجزيل الشكر و التقدير لما فيه من معلومات قيمة على قريتنا الحبيبة و أرجو من القييمين على هذا الموقع أن يزودونا دائما بأخبار عن برجا . و جزاكم الله خيرا .

  7. جميل جداً هذا الكلام عن برجا ونحن بحاجة دائماً الى مثل هذا الموقع الذي يضيف الى ذاكرتنا المزيد من الحنين الى الأمكنة التي تعني انساننا .

  8. السلام عليكم ورحمة الله بارك الله بكم ونتمنى ان من القيمين على الموقع شرح عن عائلة برجا ولكم الشكر

  9. Thank you for another great article. Where else could anyone get that kind of information in such a perfect way of writing? I have a presentation next week, and I am on the look for such information. I give to young professionals is to ask more experienced people for advice. After all, there’s no better way to know how to do

  10. It was some sort of contentment getting to your site yesterday. I arrived here right now hoping to uncover new things. And I was not upset. Your ideas with new approaches on this subject material were informative and a good help to me and my spouse. Thank you for leaving out time to create these things as well as sharing your mind.

  11. اشكر كل من ساهم ويساهم في انجاح هذا الموقع ولكن لا بد من التحدث عن برجا الحالية لنعرف ويعرف ابناء برجا والقيمون عليها كيف يحولون تاريخ برجا القديم الجميل الى كتلة من الباطون المسلح فكانت طريق عام برجا الجية مشهورة بطريق ال 13 كوع منذ عهد التراك والتي شقت بامر من الانجليز واشتهرت بدقة وبراعة تنفيذها وكيفية التاقلم مع المنحدرات لا كما هي اليوم
    لانهم استبدلوها بطريق المخالفات والتعديات والتخطيطات الغير مدروسة وتخطيطات المحسوبيات
    كما فعلت البلدية السابقة ومسؤوليها………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………. الله يرحمك يا برجا

  12. ارجو تصحيح معلومة ان جامع برجا كان كنيسة
    لقد بني مسجدا وبقي مسجدا راجعوا تصميم الكنائس والمساجد
    اذا كان كنيسة فكيف يكون المحراب من اساس البناء ؟؟
    اذا كان كنيسة كيف يكون التوجيه جنوبا وليش شرقا ؟؟
    وان ما يقال عنه جرن المعمدانية ليس هو الا مشرب للاحصنة التي كان يملكها سكان برجا
    وهناك شواهد عديدة انه لم ولن يكن اي اساس لكنيسة في بلدة برجا
    الله يرحمك يا برجا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى