من جراب الأمس

الحاج أمين والسر الدفين

كتب الأستاذ أحمد سليم عزام : من الأمثال الشعبية البرجاوية التي سمعناها من المعمرين في برجا الشوف هذا المثل : ” فلان مثل الحاج أمين ” فمن هو الحاج أمين ؟ وأيّ شأن له حتى ضرب به المثل ؟ الحقيقة أني لم أكن أعرف يقيناً هوية هذا الرجل ، ولم أكن أعرف عنه غير ما سمعته من النوادر والأخبار المنسوبة إليه ، والتي كان الناس يتناقلونها ، ويتندرّون بها .

هذه النوادر والأخبار كنت أظنها أول الأمر قصصاً أو حكايات خيالية ، بيد أن الأحاديث التي سمعناها من المسنين ، يروونها عن أسلافهم الذين عاشوا في تلك الحقبة ، وفرت لنا معلومات وافية عن حياة هذا الرجل ، وأكدّت لنا حقيقة ما حدث معه من حوادث غريبة وطريفة .

كان للحاج أمين أخت ملقّبة بمانة . كان الحاج أمين معتدل القامة ، حنطي الوجه ، ذا عينين عسليتين وأنف طويل مائل قليلاً ، على رأسه طربوش أحمر ، يغطي معظم جبهته ، ويصل إلى ما وراء أذنيه ، ينسدل على جسده الضامر خنباز أصفر مقلم ، قد لا يستبدل به بين موسم وآخر خنبازاً جديداً ، ورغم صورته البائسة والمنفّرة ، كان لا يواجه بالإزدراء قط ، بل يلقى عطفاً إيجابياً من أصحاب المحلات والمقاهي ومن سكان الحي الذي يعيش فيه .

إنه شخص ارتضى عيشته كيفما اتفقت له ، فعاش حياة التشرد والإستجداء يسرح في الشوارع ، مسترزقاً ، قانعاً بما ينال من منح ، يجود بها عليه الخيرون من عارفيه .

كان الحاج أمين كما يقال ( على البركة ) بسيطاً ساذجاً ، طيب القلب ، على أنه رغم بساطته وسذاجته ، يتمتع بقسط من الذكاء والدهاء يمكن تسميته إذا جاز التعبير بذكاء البسطاء ، أو دهاء البلهاء .

فهو يدبر المقالب للذين يضايقونه ويحاولون السخرية منه ، وله في ذلك قصصٌ وحكايات طريفة ، ما زال الناس يتحدثون عنها بين الحين والآخر ، بل لقد جرت مجرى الأمثال ، ووقعت منهم موقع التندّر .

والحق أني لا أريد الإطالة في سرد هذه الحكايات ، فقد يكون منها الصحيح ، ومنها المبالغ فيه ، ومنها الملفّق . أما الصحيح منها والمؤكّد ، فإننا لا نرى بأساً في ذكر بعضها ، بعد أن بقيت هكذا ، غير مثيرة للاهتمام كثيراً أو قليلاً ، واليكم بعض هذه الروايات عن الحاج أمين في صيدا .

ذات يوم ، وبينما هو يسير في أحد شوارع المدينة ، فوجيء بأحد جيرانه ، يقف أمامه وجهاً لوجه ، يقال : إنه علي الجنون شقيق الشاعر حسن الجنون ، كان علي قد اشترى كمية من الغزل وبعضاً من السلع المختلفة ، فقال في نفسه : هذه فرصة سانحة ، الآن آخذ الحاج أمين معي إلى الضيعة ، ويساعدني في حمل الأغراض ، فقال لأمين : شو … لوين مستعجل يا  ؟ .

قال أمين : شو بدّك يا خيي ؟ قال علي : بدّي إترافق انا وياك اليوم . أجاب أمين : لوين ؟ قال علي : عالضيعة . لكن أنا جوعان ، بدّي إتغدى ، أجاب أمين . فحاول علي أن يقنعه ويغريه بالذهاب معه ، فقال له : هلّق منتغدّى على الطريق ، معنا خبز وحلاوة وليمون ونمورة … لأ لأ ما بدّي . جايا عبالي إتغدّى في المطعم . ونزل علي عند رغبة أمين طمعاً في رفقته ومساعدته في حمل أغراضه . فأدخله أحد المطاعم ، وطلب له ما أراد ، فأكل أمين مريئاً وشرب هنيئاً  ، وعلي واقف على الباب ينتظره بفارغ الصبر ، ويحصي عليه أنفاسه وحركاته ثم يقول : يلاّ يا أمين عُرق السقف .

فلما انتهى توجه إلى المغسلة وقال لعلي : يلاّ إمشِ قدامي ، ولم يكد علي يدير ظهره ، حتى إنسلّ أمين من الباب الآخر واندسّ بين المارّة , والتفت علي فلم يرَ أمين ، فراح يراقب المارة وينظر يميناً وشمالاً ، ولكن هيهات أن يجده ، لقد انتظر طويلاً حتى تأكد أن أمين قد خدعه فقال : عملا معي هالمعتوه .

وعندما عاد إلى الضيعة ، شاهد أمين واقفاً عند مفرق وادي عمرين وقد أسند ظهره إلى الحائط ، وعلى وجهه ابتسامة الهزء والسخرية ، فتنهّد علي وقال :  يلعن الساعة اللي شفتك فيها  ، صحيح أن من عاشر الأحمق كان أشدّ حمقاً منه ، لقد تعشاني هذا البهلول قبل أن أتغداه .

عندما نزل الحاج أمين إلى بيروت أول مرة ، وشاهد فيها الأسواق التجارية ، وفيها المحلات والدكاكين المليئة بأطيب المأكولات ولذائذ المشروبات ، الزاخرة بأنواع الملابس الفاخرة ، والأحذية اللمّاعة الأنيقة ، تملكته الدهشة وسرت في نفسه أحاسيس السعادة والغبطة ، وأعجب بمنظر الناس وهم يتدافعون في الشوارع المكتظة ، وخاصة في سوق النورية وسوق سرسق وفي سوق أبي النصر المتصل بسوق السمك وسوق اللحوم وخان البيض ، وأطربه صوت الباعة وخشخشة كاسات بائع السوس ، وصوت زمور بائع الكاز والسيارات والعربات والترمواي وعجقة السير .

لقد بهرته بيروت ، وجذبته إليها فأقام فيها شطراً من حياته قضاها في منطقة البسطة ، والأسواق والمرفأ ، فألف أهل البسطة وألفوه ، وعرف التجار وأصحاب المقاهي والمحلات في محيط المرفأ وعرفوه ، وكذلك تعرّف على البحّارة والصيادين والموظفين هناك .

كان ينطلق في الطرقات يجوبها طوال النهار ، يمر على المطاعم والمقاهي والمحلات ، فيكرمه أصحابها ، ويغدقون عليه ، وهو لا يطمع بشيء من الدنيا سوى الطعام والمأوى .

كان يتمشى على رصيف المرفأ يودّع المسافرين ويساعدهم في حمل حقائبهم ، ويستقبل العائدين من السفر ويتودد إليهم ، محاولاً كسب عطفهم .

القبطان وريّس المينا والتجار ، يمازحون الحاج أمين ويداعبونه ، وهذا ما دفعه إلى الرغبة في السفر معهم في موسم الحجّ ، وفي اليوم المحدد لسفر الحجاج ، كان الحاج أمين على ظهر الباخرة لكن القبطان يعرف أن أمين رجل درويش فقير ، ولا يملك نفقة الحج ، فقال لرجاله : أنزلوه ، قد حان وقت السفر .

وعندما حاولوا إنزاله ، أخذ يتوسل إليهم ، ويتشبّت بثيابهم ، لكنهم خاشنوه بالكلام وأرغموه على النزول . ووقف المسكين مسحوق القلب ، مكسور الخاطر ، وقد أصيب بخيبة أمل مريرة ، بسبب حرمانه مما كان يمني النفس به ، ثم رفع يديه ورأسه إلى السماء وقال بلهجته البيروتية ـ البرجاوية : مخاطباً القبطان : ( روح … انشاالله ما بتوصل ) .

وظل واقفاً في مكانه ، يراقب الباخرة وهي تمخر عباب اليم ، وعيناه مخضلتان بالدموع .

ولم تكد الباخرة تصل إلى عرض البحر ، حتى توقفت فجأة ، ولم تعد تتقدم ، وراحت تتمايل وسط الأمواج المتلاطمة ، ودبّ الذعر والهلع في قلوب الحجاج ، وانتابتهم حيرة مربكة ، لا سيما بعد أن عجز طاقم الباخرة عن معرفة السبب ، وبدأوا يجأرون إلى الله بالدعاء ، ليكشف عنهم الضرّ ، وينجيهم من الغرق . قال أحد الحجاج : يا إخوان … إن المركب الذي ليس فيه شيء لله يغرق ، لا بدّ أن أحدنا قد أغضب الله ، فتذكر القبطان وقال : هل تذكرون ما فعلتم بأمين ؟ قال آخر : لقد سمعته يدعو عليكم لأنكم منعتموه من السفر معنا . فقال لهم  : لنرجع إلى الميناء ولنأت بأمين ، فقد نوى الحج هذا العام ، فلعل الله يسهّل علينا السفر ببركته ، فرجعوا إلى الميناء ، وعندما رأوه قالوا له : أبشر يا أمين ، ستكون معنا في الديار المقدسة إن شاء الله ، فارتعش من شدة الفرح ، وأضاءت وجهه المتغضّن ابتسامة الرضى والإطمئنان .

ولما صعد إلى الباخرة قال : بسم الله ، توكلنا على الله . وجرت الباخرة بريح طيبة ، تتهادى على صفحة الماء بيُسر وسهولة والحجاج يهللون ويكبّرون ، وكانت هذه الرحلة مريحة وميسّرة ، لم يشكُ خلالها أحد من الحجاج تعباً ولا نصباً ، فأدّوا مناسكهم ، وعادوا إلى ديارهم سالمين غانمين ومعهم صاحبنا الحاج أمين .

بعد عودته من الحج ، توجّه الحاج أمين إلى بلدة قب الياس في البقاع ، مع جماعة من حجاج البلدة الذين كانوا معه في هذه الرحلة . وكانت قصة الباخرة قد سبقته إلى هناك ، ونظراً لذلك قد حظي بالعطف والمعاملة الطيبة وبخاصة من قبل آل قزعون الذين أكرموه وأقاموه عندهم ، يخدمهم ويعيش في كنفهم .

وهكذا فإن قب الياس كانت بالنسبة للحاج أمين نهاية المطاف ، حيث إستقر به المقام فيها ، وكانت المحطة الأخيرة في حياته .

من المسنين الذين شاهدوا الحاج أمين  في قب الياس المرحوم الحاج محمد سعيد عزام ( أبو سعيد ) تزوج من امرأة من قب الياس من عائلة يقطين وسكن هناك فترة طويلة .

ومنهم المرحوم الحاج يوسف معاد المعروف ( يوسف شُغُل ) وكان قد أقام فترة في معلقة زحلة يبيع الأقمشة متجولاً في القرى والبلدات البقاعية ومنها بلدة قب الياس .

عندما تقدمت به السن ، كان يُرى في ساحة البلدة ، قد تقوّص ظهره وتشعّث شعره وغطت وجهه الغضون والتجاعيد ، يتحسّس الطريق بأقدامه المتعبة .

وفي صبيحة يوم من الأيام ، لاحظ الجيران أن الحاج أمين لم يغادر غرفته ، ولم يُسمع له صوت . تفقّدوه ، فألفوه نائماً على فراشه ، وعندما أرادوا أن يوقظوه ، وجدوه جثة هامدة .

كان من الطبيعي أن يهتم الخيرون وعلى رأسهم آل قزعون ، بترتيب الأمور ، وتشييع الحاج أمين إلى مقبرة البلدة في جنازة بسيطة ، ثم يواروه الثرى بلا مقرئين ولا مشيعين ، ولكن فوجئوا بحدث شبيه بالكرامات ، ألغى كل ما كان مقرراً ، لأنه كان تقصير بحق هذا الحاج ، فعندما وضع في النعش وأراد الرجال أن يحملوه ، وجدوه ثقيلاً ، وحاولوا مراراً كثيرة رفعه أو زحزحته فلم يستطيعوا .

هذا الحدث كان مثار دهشة وحيرة ، لا شك أن في الأمر سراً ، وكان في البلدة شيخ وقور تقي ورع ، سمع الخبر ، فحضر على الأثر ، ولما تأكّد من ذلك قال للحاضرين : انعوا الرجل لكل أهل البلدة وليحضروا جميعاً ، ليشاركوا في تشييع الجنازة .

وأعدوا المقرئين والمنشدين ومعهم النوبة ، فخرجت القرية عن بكرة أبيها ، وبدأ المقرئون يرتلون سورة (يس) وبدأت الطبول والدفوف والصنوج تدق في إيقاع رتيب جميل ، ترددت أصداؤه في جنبات البلدة وفي منحنيات السهل الفسيح .

ووقف أحد الشيوخ متوسطاً جموع الذاكرين والمتصوفين ، وقد طغت عليهم موجة صوفية عارمة ، وإذا بالرؤوس تتمايل مع الإيقاع الرتيب ، وأنفاس الذاكرين تتصاعد فيما يشبه الهمس ، مرددة التبتل والدعوات ، وكانت البيارق تتمايل بألوانها الخضراء ، ذات الكتابات البيضاء المذهبة ، عالية شامخة ، ورفع النعش على الأكف وحمل على أكتاف الرجال فكان أخف من ريشة في مهب الريح ، ومشى الناس خلف الجنازة ، في موكب مهيب ، يشيعون رجلاً عاش غريباً ووجد في هذه الغربة من يؤويه ويعطف عليه ، ومات غريباً ، ولكن الله أكرمه ، فكان له مأتم ، كان له صدىً عميق في قب الياس وجوارها .

وتحدث عنه الناس بعد ذلك ، فقال قائل منهم : لقد كان المرحوم رجلاً طيب القلب وانساناً ( على البركة ) وقال آخر : كان الحاج أمين رجلاً صالحاً ، بل هو ولي من الصالحين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى