من جراب الأمس

المستشرق لوشون : برجا قرية قريب من القلب

يعتبر الإستشراق حركة ذات نواحٍ إيجابية فيما يتعلّق بالدراسات الكثيرة والشاملة لمختلف صعد الحياة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والسياسية التي إهتم بها المستشرقون . والدراسة التي ننشرها اليوم هي غيض من فيض الإستشراق تذكرنا بالماضي وتصلنا بالحاضر الشبيه جداً بما مضى ونحاول من خلالها استشراف المستقبل .

وقد استطعنا الحصول على هذه الدراسة  كاملة من المكتبة الشرقية بالجامعة اليسوعية وهي عبارة عن تحقيق نشر في مجلة La Revue du Liban  في شهر آب 1962 . وكانت دورية ” هتاف الشوق ” قد باشرت بنشرها في عددها الأخير في أواخر الثمانينيات ولم تسعفها الظروف في إكمال نشرها لأنها توقفت عن الصدور .

والشيء الملفت في هذه الدراسة التي وضعت منذ حوالي أربعين سنة أنها تعطي صورة عن برجا كأنها في الزمن الحالي ، فالمشاكل التي تعاني منها البلدة ما زالت كما هي وإن توسعت برجا جغرافياً وعمرانياً فإن مشاكلها قد زادت ومعاناتها قد تفاقمت .

وقد استوقف وضع برجا المستشرق الفرنسي Marthelot   الأستاذ في جامعة السوربون ، الذي كان قد زار لبنان ، وعند عودته إلى باريس كلف الأستاذ Christian Lochon  بالعودة إلى لبنان ليكمل ما بدأه من دراسة جغرافية ، ريفية واجتماعية لبرجا كنموذج للقرية اللبنانية .

وكان على علاقة بالنائب السابق أحمد البرجاوي الذي أوصى به لدى فعاليات برجا في ذلك الوقت ، وأرسل رسالة بهذا المعنى إلى مدير مدرسة برجا المتوسطة للصبيان الأستاذ محمد علي دمج بتاريخ 15 / 7 / 1962 والذي عقب على هذه الرسالة مبدياً الحفاوة التي استقبل بها الأستاذ لوشون عملاً بتوجيهات النائب البرجاوي .

وهنا نص رسالته : ” حضرة الأديب الفاضل الأستاذ محمد علي دمج مدير مدرسة برجا المحترم : سلاماً واحتراماً وبعد ، فإنني أقدم لكم الأستاذ كريستيان لوشون المستشرق الفرنسي الحائز على منحة ثقافية من وزارة الخارجية الفرنسية ، والأستاذ السابق في كلية المقاصد الإسلامية في بيروت لمساعدته على درس الحياة الإجتماعية في إحدى قرى لبنان . وقد اختار الأستاذ لوشون قرية برجا بالذات للإقامة فيها مدة أو التردد إليها لمتابعة دراسته فيها . وقد طلب مني أحد أصدقائي رئيس الدائرة الثقافية في وزارة الخارجية اللبنانية كي أقدمه إليكم لمساعدته وتزويده بالإرشادات اللازمة ، لذا أرجوكم الإهتمام به وتسهيل مهمته ومساعدته بما يلزم ، ولكم مزيد الشكر سلفاً ” .

عقب الأستاذ دمج فقال : ” وبالفعل حضر لمنزلي الأستاذ لوشون ، فأعطيته غرفة في المنزل ليقيم فيها ، وقد بقي عندي لمدة أسبوع ، وكنت أقوم معه بزيارة معمل النسيج في برجا والأماكن الأثرية فيها ، ونتسلى معاً بلعب الورق في مقاهي برجا ومع زملائي . وكان مسروراً بالجو المرح الذي لقيه من الأهالي وبمن تحدث معهم ، ولدى عودته إلى فرنسا كاتبني مرتين ” .

وفيما يلي ترجمة حرة للدراسة التي كتبها المستشرق لوشون : ” كما أن قرية  ” تينيس ” معروفة بسدها المنيع ، ومدينة ” إفنيون ” معروفة بجسرها الشهير ، كذلك برجا ، القرية الصغيرة القابعة في جبل لبنان ، يُذكر اسمها كلما أثير موضوع النزوح أو الجغرافيا الريفية ، وذلك خصوصاً منذ أن كرّس لها هذا الشتاء البروفسور ” مارتيلو ” وهو عالم اجتماع معروف ومتخصص بالمسائل الريفية ، محاضرات في جامعة السوربون معتبراً إياها مثلاً نموذجياً للقرية اللبنانية .

إعتباراً من ذلك الوقت ، فإن المستشرقين وعلماء الإجتماع يهتمون ببرجا ، بتركيبتها الإجتماعية ، الجغرافية والإقتصادية كحالة خاصة . إنهم يريدون أن يصدروا كتباً حول هذه البلدة وأن يجدوا فيها جواباً لمشكلة إجتماعية تؤرق زماننا ، ألا وهي مشكلة النزوح الريفي إلى المدينة والتي حلتها برجا إلى حد ما … ولكن إلى أي مدى ؟ من هو كريستيان لوشون ؟ إنه أستاذ فرنسي معروف ، موفد خصيصاً من فرنسا ليدرس ” حالة ” برجا ، وأن يضع كتاباً حول هذه ” القرية النموذج ” . إنه رجل طويل القامة ، ذو شارب أشقر كأنه من طبقة النبلاء البريطانيين ، وهو يعرف لبنان جيداً كونه أمضى فيه أربع سنوات كأستاذ للغة الفرنسية في كلية المقاصد الإسلامية وفي الليسيه الفرنسية في بيروت .

وخلال إقامته أحبّ الشرق وسحره ، ودرس اللغة العربية التي أصبح يجيد التحدث بها والكتابة دون أن ينتسب إلى المعاهد المتخصصة في شملان أو بكفيا . إنه إنسان طيب ، رجل علم وأدب ، لذلك انسجم بسرعة وتأقلم في قرية محافظة كبرجا .

إنه اليوم في زيارته السادسة . لقد طرح مسبّقاً معطيات القضية وهي قبل كل شيء ضرورة معرفة لماذا يتصرف البرجاويون كأبناء المدن بينما قريتهم تقع في قلب الجبل اللبناني على مسافة تزيد من سبعة وثلاثين كيلو متر عن بيروت . ثم عليه أن يعرف لماذا لا يوجد نزوح من هذه القرية نحو العاصمة ! ماذا يقول كريستيان لوشون عن برجا ؟ لنصغِ إليه وهو يتحدث : إن البروفسور ” مارتيلو ” المستشرق المعروف ، وخلال زيارته الأخيرة للبنان ، إهتم إهتماماً شديداً ببرجا ، وعند عودته إلى باريس ، كرّس محاضراته في المعهد العالي للدراسات التطبيقية التابع لجامعة السوربون ، للبنان وخاصة برجا .

في الواقع إن هذه القرية وسكانها – الذين يعتبرون أنفسهم من سكان ضواحي العاصمة – يثيرون حيرة علماء الإجتماع والمتخصصين في الجغرافيا الريفية . عند عودتي إلى فرنسا ، في الصيف الماضي ، حصلت من الدولة الفرنسية على منحة للسفر إلى لبنان للقيام بدراسة آحادية ” مونوغرافية ” عن هذه القرية ثم أن أضع لاحقاً كتاباً عن برجا . لقد سررت جداً بالعودة إلى هذا البلد الذي تعلمته فيه المعرفة والمحبة . إن الضيافة اللبنانية التقليدية المعروفة في برجا وغيرها قد ساعدتني كثيراً على القيام بمهمتي بشكل جيد . لقد أستُقبلتُ بحفاوة من قِبل السلطات المحلية ومديري وأساتذة المدارس والمختار ووجهاء البلدة حيث أوصى بي عندهم أحمد بك البرجاوي ، وهو رجل واسع الثقافة ، نائب سابق للشوف ، ولقد أصر شخصياً على تسهيل مهمتي .

أنوال الحياكة عمرها أربعمائة سنة

تقع برجا الشوفية في أقليم الخروب وهي تُشرف على ثلاثمئة متر من طريق صيدا – بيروت . تصعد إليها من الجية في طريق تخترق تربة كلسية وفقيرة نوعاً ما ، وتصل إلى ساحة البلدة بعد ثلاثة كيلو مترات . وفي هذه الساحة تتجمع سيارات السيرفيس والباصات التي تُقل ما بين ثلاثمئة وثماني مئة راكب برجاوي يومياً إلى بيروت حيث يعملون كموظفين ومستخدمين وما شابه . تحيط بالقرية أشجار الزيتون واللوز والأكي دنيا والحامض والليمون ، كما تحدها بعض الينابيع القليلة .

إن هذه المعالم التي يمكن أن نجدها في كل قرية من ساحل جبل لبنان لا تشكل لوحدها أصالة برجا . ما إن نبدأ بالتعرف إلى حياة هذه القرية ، فإننا ندرك أن البراجنة يعيشون كسكان مدينة أكثر من كونهم سكان قرية . إنهم يتصرفون كأنهم ” سكان الضاحية ” البيروتية ، وما يساعدهم على ذلك هو الحِرف المحلية التقليدية .

لقد أنشأ عمال النسيج خمسين نول حياكة ، تعشش بين بيوت القرية ، ويعود تاريخها إلى أربعمئة سنة . إن كل ما فيها بسيط وعظيم على صورة القروي ابن الجبل اللبناني . أما الإنتاج فمتنوع مثل شراشف الطاولات والأسرّة والمناشف القطنية وحتى القمصان ذات المتانة الجيدة .

في الوقت الذي تهتم فيه حكومات العالم بأسره بتحسين شروط الحياة الريفية ، من المهم أن نرى كيف أن برجا استطاعت أن تحتفظ بأنوال حياكة تقليدية مجنّبة بذلك مواطنيها النزول إلى المدينة والبحث عن عمل فيها . إنها عملية متسلسلة . وهكذا ، فإنه يوجد في العديد من العائلات البرجاوية أفراد يتعاطون الحياكة في بيوتهم وآخرون يحملون على أكتافهم القماش إلى المدينة أو إلى القرى الأخرى ويصلون أحياناً إلى سوريا والأردن .

هناك نول واحد لحياكة السجاد ” البُسط ” قد بقي على قيد الحياة وعمره مئة عام على الأقل كما جرى التأكيد لي . إن الحرفي الذي يشغّله ، يعمل دون رسم مسبّق ، إنه يختار الخيطان من ألوان على هواه ، وهكذا يضع بسطاً ذات رسوم جريئة وانسجام رائع . وتُعتبر هذه الصناعة بدون شك قديمة جداً . إن القرب من صيدا والآثار الفينيقية المحفوظة في القرية بشكل جيد تشهد على ذلك . على كل حال ، إن البراجنة يحبون التذكّر أنهم في عهد الأمير فخر الدين كانوا يصدّرون نسيجهم الحريري من مرفأ صيدا إلى الخارج .

أين برجا من التقدم ؟

إن شروط الحياة الحالية تتطلب حلولاً حديثة للمشاكل المشتركة التي تعاني منها جميع القرى اللبنانية مثل الماء والكهرباء والطريق والمستوصف . فمتى تحصل برجا على ذلك ؟ وماذا سيحدث لهذه القرية ؟ هل ستُهمل أنوال الحياكة فيها ولا نرى في المستقبل بائعين من برجا يعرضون علينا بضائعهم ؟ حتى الان ولعامين مقبلين أيضاً ، فإننا سنبقى في فترة إنتقالية .

في الواقع ، الماء يوزّع في البيوت بكميات غير كافية ، ويُقال إن مياه الباروك سوف تصل إلى القرية خلال العامين المقبلين . أما بالنسبة للكهرباء ، فإن التمديدات أصبحت جاهزة ، وقد مدّت خطوط التوتر العالي ، وهي لا تنتظر سوى التيار الكهربائي الذي سيصل ربما خلال الإثني عشر شهراً المقبلة .

أما بالنسبة إلى الطرقات ، فلم يكن سابقاً يوجد سوى الطريق التي تصل برجا بالجية ويمكن الذهاب منها إلى صيدا أو إلى بيروت ، والآن هناك طريق تصل برجا بقرى الداخل كالمرج وشحيم وتصل حتى بيت الدين مركز قائمقامية المنطقة . حتى العام 1961 كان هناك مدرسة رسمية واحدة ابتدائية ومتوسطة للصبيان تسمح للشباب البرجاوي بالتقدم إلى امتحانات البريفيه . وفي العام الماضي ، عند بداية السنة الدراسية ، أقامت وزارة التربية الوطنية المدرسة الثانوية والتي سوف تسمح للطلاب بالتقدم إلى امتحانات الباكالوريا – القسم الثاني – .

ويؤكد مدير هذه الثانوية أن برجا هي إحدى القرى التي تقدّم إلى الدولة الكثير من الأساتذة والمعلمين . وهكذا سوف ينشأ وسط ثقافي حول الأساتذة والمعلمين ومديري المدارس يُعتبر من المقدرات الثمينة جداً . إننا نتمنا للذين سيحوزون على شهادة الباكالوريا أو على الشهادات الجامعية في المستقبل أين يجدوا مواقع لهم بالقرب من قريتهم تسمح لهم أن يساهموا في تقدمها الإجتماعي والإقتصادي بشكل فعّال ، وخاصة في هذه الفترة الإنتقالية . ولا بد أن أقول إن تحسين شروط الحياة في هذه القرية سيعطيها في المستقبل إمكانية أن تصبح مركز اصطياف يؤهلها له موقعها الجغرافي وآثارها التاريخية وضيافة أهلها خصوصاً .

وهكذا ، فإن هذه الحرارة الإنسانية وهذا الجو الأخوي الأصيل يجعل من برجا قرية قريبة من القلب بشكل خاص . إذا لم تصل دراستي الموسّعة لهذا الموضوع إلى نهايتها ، فإنني على الأقل سوف احتفظ بذكرى غنية بالتجرية الإنسانية وخاصة الضيافة في هذا الزمن الرديء ” . ترجم هذه الدراسة عن الفرنسية الدكتور غازي محمود غزيل الأستاذ في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى