برجا الآنوجوهٌ من بلدتي

الفنان نبيل سعد يرسم لبنان الذي نحب

كتب الأستاذ أنطوان فضّول:

أبصر النور في بلدة برجا عشية اندلاع الحرب في لبنان في سنة 1975. لكنّه راح يغرّد خارج سربها. لقد أظهر منذ طفولته، وبالفطرة، موهبة لفتت أساتذته، راح يطورّها مع السنوات حتى أتقنها.

شارك في السنة 1985، وهو في العاشرة من عمره في معرض هو الأول في مسيرته الفنية. مع بلوغه العشرين كان قد تمرّس على يد كبار الفنانين التشكيليين اللبنانيين، وكانت لوحته قد تبلورت هوية واتخذت أبعادها.

من بلدة برجا، منبع إلهامه وخياله، غرّد وحيدًا، يستوحي من ربوعها تفجّرًا ربيعيًا يتأقلم عبر امتدادات زمنية، ترجمه بإيحاءات تجلّت تخيلاتٍ هازجة بالألوان تَنْسابُ بمطواعية، وتنسج بريشته دفئًا رومنسيًا يعبق بالعطر الخمري.

هذا الشغف بتلك البيئة التراثية، حرره من عبودية الزمن، فانعتق فنًا مغمورًا بالحنين، يعطي الطابع المعماري اللبناني التراثي البيئي ألقًا وجدانيًا عميقًا.

وإذا بلوحاته تدخلنا ذاك العالم السحري الأليف وتأسر عيوننا ببساطة تكوينها وطبيعية إطارها ووضوح بنيتها الهائمة في غياهب السلام والسكينة والرؤية الإنسانية الغائرة في ملاعب الأصالة والتراث والبيئة العذراء.

مع لوحات سعد، ندخل في حوار باطني شفاف.

ألوانها تشبع العين دون أن تجعلها ترتوي، إذ تخطفها إلى فن يتراقص على همسات ملائكية.

إنطلاقًا من معرض برجا في الذاكرة، شق مسارًا مفردًا في الفن التشكيلي، يستمد أبجديته الأولى من المدرسة الإنطباعية وينشد بلغتها سيمفونية تقاطعت فيها تلاوين التراث بجمالية المشهد.

توشحّت برجا بلوحاته بثوب البلدة اللبنانية النموذجية.

رسم تفاصيلها وهو الذي عاش في حضنها وترعرع في دروبها وتسلّق روابيها وعاين كل تفصيل فيها.

ترك معرض برجا أعمق الأثر في قلوب أبناء البلدة وطبع مجتمعهم وأعاد نسج وحدتهم. ودخلت لوحات سعد في صميم ثقافتهم، فتراهم يختارونها لتزيين مطبوعاتهم وروزناماتهم وغلافات كتبهم وصفحات منصاتهم عبر التواصل الإجتماعي.

ثم غاص في العمق الفلسفي لرؤية أعمق وأكثر شمولية، فكان معرض عيون شرقية في قصر الأونيسكو، بعد عامين، في بيروت في السنة 2003، طبع فيه هوية لبنان المعمارية التراثية في آفاق شرق أوسطية. وأظهر حقيقة الشرق في عيون شرقية.

جاءت أحداث 2005 المأساوية في لبنان، لتغلّف بسوادها وهج مسيرته، فتباطأ نبضها. لكن جدارية ضخمة بتوقيعه لامست الأمتار الخمسة ارتفاعًا والعشرين مترًا طولاً أنجزها في العامين 2006 و2007، أضاءت في وسط تلك العتمة، وأعادته إلى الساحة الفنية عبر مشاركات في معارض فردية وجماعية كانت بمثابة توهّج يسبق تفجرًا جديدًا كانت محطته، في السنة 2008، معرضًا حمل عنوان سيارة وطيارة وقطار، إستضافته قاعة البيال، خرج فيه عن تقليدية الرسم.

ثم عادت اللوحة التراثية في إطار المدرسة الإنطباعية لتستعيد مركزيتها في تشكيله، فكان معرض “زمان بالألوان” جال فيه في مختلف أرجاء لبنان، قبل أن يفتتح محترفه الخاص، محترف نبيل سعد للفنون في السنة 2011، ولا يزال ناشطًا إلى اليوم، يطلق أفواجًا من المواهب التشكيلية الشابة.

شهدت تلك المرحلة تسارع وتيرة ظاهرة السيمبوزيوم وتوزعها على امتداد الجغرافيا اللبنانية. فانضم إلى تلك الحركة الثقافية الوطنية وكان في عداد مشجعيها والملتزمين بُعدَها الفني والسياحي الداخلي.

وتألق بنوع خاص سحرًا ومشاعر، في سيمبوزيوم صور وطرابلس وبرجا ولا سيما بيروت التي جسّد روحها كما لم يجسده فنان تشكيلي من قبل.

ستون لوحة تؤرّخ لحقبة ممتدة بين العامين 1838 و1975 رصّعت جدران معرض حمل عنوان بيروت على خط الأفق، إحتضنه قصر الأونيسكو بدعم من مؤرخين ومهتمين بتراث بيروت.

كانت تلك اللوحات الرائعة، أكبر مجموعة، على الإطلاق، رُسِمَتْ عن بيروت لفنان واحد.

في الأكواريل أو الزيت أو الأكريليك، يرسم سعد لبنان الذي نحب، في رسالة سلام ودعوة للعودة الى البراءة والأصالة والحنين.

نبيل سعد، فنان لبناني بات له جمهور خاص ورصيد وافر وخبرة وذوق مرهف إلى جانب مجموعة كبيرة من اللوحات التشكيلية التي أبعد من أن تكون مجرد تحفة تشكيلية، إنّها أنشودة دافئة من ألوان قوس قزحية تترجم أصداء طفولية على مساحات من القماش الأبيض.

صفاء وشفافية يلفّان لوحاته وغوص في أعماق المشاعر الباطنية يترافق مع حوار صريح بين “الأنا” التي تكتنز الخبرات والتجارب وتقتحم جدار المستقبل بثقة وجرأة وثبات على وقع سيمفونية القلب والرومنسية في إطار من ربيع منعش وطبيعية نابضة.

خلايا لوحته منسجمة، متحابة، متعانقة تخمّرت في أقبية الإبداع الخلوق، وتشكّلت فسيفساء متكاملة تشخّص الإيكولوجيا النضرة تناجي الحنين وقد أنعشتها روح تَمُوجُ بالسلام، وهو المطاف الأخير في رحلة نبيل سعد الفنّية ومُشتهى عطائه التشكيلي.

  • تحيّة شكر وتقدير من أنطوان فضّول والمنتدى الرقمي اللبناني إلى الفنان التشكيلي نبيل سعد.
  • منقول عن صفحة “أعلام من بلاد الأرز”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى