من جراب الأمس

التعليم من تحت السنديانة إلى الكتاتيب

برجا

كتب أ. فادي حسن الغوش:

ارتبط التعليم في الدولة العثمانية بالدرجة الأولى، كما هو الحال في جميع الدول الإسلامية، بالمدارس الدينية، التي أقيمت بادئ الأمر في المساجد أو ملحقة بها (الكتاتيب)، وبمرور الزمن أنشئت للتدريس مبان مستقلة.

يتذكر اللبنانيون كثيرًا، خصوصًا في كتب القراءة التي تدرس للصغار، مدرسة «تحت السنديانة»، يوم كان الأستاذ يعلم تلامذته في القرية تحت الشجرة وهم يفترشون البسط، لكن من الطرائف أن هذا النمط البدائي كان سائدًا في الوقت الذي كانت فيه المدارس قد وجدت في وقت مبكر في المدن وبعض البلدات.

وبالإمكان اليوم الحديث عن عدد من المدارس الخاصة التي تعود إلى ذلك الزمن، ولا تزال مؤثرة إلى اليوم. وإذا كانت الإرساليات المسيحية قد لعبت دورًا، وافتتحت مدارس في مختلف المناطق التي ستصبح ضمن نطاق لبنانالكبير بعد الاستقلال عام 1943، فإن بقية الطوائف أيضًا سعت إلى أن يكون لها مدارسها وجامعاتها.

في أوائل القرن التاسع عشر كان التعليم الديني التقليدي موكولا ً الى طوائف مختلفة في البلاد، انحصر في المستوى الابتدائي “الكتاب”. وفي مستوى أعلى (“المدرسة” ولا يزال منها عدد في طرابلس منذ عهدي المماليك والعثمانيين (.

مثل الكتاب المرحلة الأولى من التعليم، يعلم فيه شيخ الكتاب، وكان مختلطا ً من الجنسين بأعمار بين الرابعة أو الخامسة في المدن، والسابعة وما فوق في القرى. وكان عادة ً في زاوية من فناء جامع أو غرفة ملحقة به، أو في بناء دير أو كنيسة، أو في باحتها تحت سنديانة ظليلة، أو في حوش منزل شيخ الكتاب.

كان يجلس التلاميذ على حصير أو بساط، أو يفترشون العشب، فالتدريس في الهواء الطلق في أغلب القرى، من الصباح حتى المساء ستة أيام في الأسبوع ومعظم أيام السنة، وكانت العصا، قصرت أم طالت، من مستلزمات التدريس لشيخ الكتاب أو خوري المدرسة، يشير بها أو ينبه بها التلاميذ أو يعاقبهم. كان التعليم يقتصر على مبادئ القراءة والكتابة العربية والحساب، والقرآن الكريم في بعضها، والتعاليم الانجيلية في بعضها الآخر. وكان التلميذ يلتحق بالكتاب بضع سنوات حتى يختم القرآن فيقام له احتفال للأهل والأصدقاء وتكريم التلميذ ومعلمه.

بعد زوال الاحتلال المصري وعودة العثمانيين الى بلاد الشام عام 1840، أجرى العثمانيون اصلاحات تربوية استمرت حتى نهاية عهدهم، فشكلوا لجانا ً درست أوضاع التربية والتعليم وقارنتها بأوضاع بعض الدول الأوروبية، وصدر في آب 1846 “قانون اصلاح التعليم” خول الدولة الاشراف على مراحل التعليم ومدارسه عبر مجلس معارف دائم، ونص على مجانية التعليم، وحق تعيين معلمين من غير رجال الدين، وعلى جعل التعليم ثلاث مراحل: ابتدائية وثانوية وعالية. (انظر الجدول رقم 1).

اشتمل التعليم الابتدائي، الى العلوم الدينية، على القراءة والكتابة والحساب وحسن الخط، وعلى تأسيس المكاتب الرشدية والاعدادية في المدن الرئيسية (بيروت وطرابلس وصيدا) تدرس فيها القواعد والنحو والصرف والخط والانشاء والتاريخ والجغرافيا والحساب والهندسة. وخرجت تلك المدارس بيروقراطيين كثيرين في بيروت ومدن الساحل، فضلا ً عن مدارس مهنية (مكتب الصنائع الحميدي في بيروت) عنيت بتخريج فنيين وتقنيين.

التعليم العالي (الجامعي) انحصر بداية ً في استنبول بمكاتب طب وزراعة وفنون جميلة ودار معلمين. وسنة 1847 تأسست “وزارة المعارف العثمانية” ففتحت دوائر معارف في الولايات. وصدر سنة 1869 “قانون المعارف العمومية” نظم المدارس في فئتين: عمومية (رسمية) تديرها الدولة، وخاصة تديرها مؤسسات أو أفراد وتخضع لإشراف الدولة.

واشترط القانون حصول المدارس الخاصة على اذن رسمي لقيامها، وفرض عليها اتباع منهج تعليمي تصدق عليه السلطة، وعلى أساتذته شهادات تعترف بها الدولة التي شكلت “هيئة التفتيش والمعاينة” للمراقبة والمتابعة. وسنة 1882 صدر”نظام مجلس المعارف” ونص على فتح مجلس معارف في كل ولاية واقامة شعب له في مدن رئيسة. كما صدرعام1892م.”المنهاج المفصل لمواد وساعات التدريس “لجميع مراحل التعليم. وقد تألف نظام المعارف عام1869 في الدولة العثمانية من 198 مادة وخمسة أبواب. وبحثالباب الأول في أنواع المدارس ودرجاتها فجعلها خمس مراحل. (الابتدائية – الرشيدية – الإعدادية – السلطانية – العالية)

سنة 1900 صدر نظام امتحانات رسمية جعلها في ثلاث مراحل: “صنفي” (آخر السنة للانتقال من صف الى آخر)، “مكتبي” (الانتقال من مدرسة الى أخرى)، وملازمة رؤوس” (الانتقال الى مرحلة التعليم العالي/ الجامعي). ومع مطلع القرن العشرين كان التعليم العثماني انتظم واكتمل، في مدارس من فئتين: رسمية، وخاصة (أهلية وأجنبية). ورافق هذا التحديث انشاء عشرات المدارس والمعاهد والكليات. فأضحت بيروت منذ مطلع القرن العشرين رائدة النهضة التربوية والعلمية والفكرية والثقافية في منطقة شرق البحر المتوسط والعالم العربي، ومركز المطابع ودور النشر واصدار الصحف.

 

تميز القرن التاسع عشر بنشاط ارساليات تبشيرية مختلفة (كاثوليكية وانجيلية ومارونية وأرثوذكسية وبروتستانتية وغيرها) كانت تتبع دولا ً أجنبية أبرزها فرنسا وأميركا وانكلترا وألمانيا وايطاليا والنمسا واسكتلندا. كانت دوافع تلك الارساليات التبشير الديني المسيحي، لكن وفرتها أدت الى نتائج تربوية ايجابية، فكان تطور ايجابي لمصلحة السكان لأن الارساليات تنافست على فتح مدارس واقامة معاهد علمية لكسب ثقة السكان ورضاهم، وتحقيق مكاسب لها على حساب غيرها من الارساليات.

بالتزامن مع هذه الحيوية التعليمية عند الطوائف المسيحية، شكّل السنّة بدورهم «جمعية المقاصد الإسلامية» عام 1878، وبدأوا بإنشاء مدارس لها، بإمكانها اليوم أن تحتفل بمرور 139 سنة على تأسيسها. وقد شهدت هذه المؤسسات التعليمية التي أصبحت تشمل جامعة أيضًا عصرها الذهبي في منتصف القرن الماضي، بفضل دعم كبريات العائلات البيروتية. وقد أريد لها أن تعنى بالصغار، والتربية على غرار المدارس الأجنبية في لبنان وأوروبا، فافتتحت لها فروعًا كثيرة في المناطق وتهدف الجمعية في رسالتها التربوية إلى تأمين التعليم الأساسي والتربية الإسلامية لأكبر عدد من أولاد مجتمعها، والتدرج بهم نحو فهم متكامل لرسالة الإسلام والتمسك بقيمه السامية، والتنشئة على الخصال العربية، وتطوير روح عمل الفريق لديهم لتعزيز الشعور بالمسؤولية، والثقة بالنفس.

 

ولم يغب الشيعة عن المشهد، ففي ثلاثينات القرن الماضي، أنشأ رشيد يوسف بيضون مدرسة سماها «الكلية العاملية» غايتها تعليم شباب جبل عامل في الجنوب اللبناني، وتحسين مستواهم الاجتماعي والعلمي. كما ساهم الرجل في إنشاء المؤسسة المهنية العاملية، بمساعدة تدريبية وعينية من دولة ألمانيا الاتحادية.

أما الدروز، فمع قيام نظام المتصرفية في جبل لبنان عام 1861، أسهم المتصرف داود باشا، مع أعيان الموحدين الدروز، في تأسيس المدرسة التي أطلق عليها اسم المتصرف «المدرسة الداودية». وقد أشرف المتصرف على بنائها، بعد جمع أوقاف الموحدين الدروز العامة في وقف واحد سمّي بـ «وقف الداودية»، لتأمين مستلزمات ونفقات المدرسة، والتعليم فيها كمدرسة داخلية مجانية كانت صرحًا مهمًا في تاريخ التعليم في كل منطقة الجبل، وتخرّج منها آلاف الطلاب الذين كان لهم شأن ودور مهم في تاريخ لبنان.

وكذلك يمكن الحديث عن المدرسة المعنية (نسبة لأمراء آل معن) التي أسسها عارف النكدي، أحد أبرز رعاة الداودية، لتكون مدرسة شقيقة في العاصمة بيروت.

كان لقضاء الشوف الانطلاقة الأولى لإنشاء مدارس المعارف في متصرفية جبل لبنان في عهد المتصرف داوود باشا من خلال مدرسة دير القمر ومدرسة شحيم للذكور. فقد اهتم من بعده المتصرف فرانكو باشا 1868 – 1873م. بالمدارس الرسمية وعرف فائدتها وأهميتها، فأبقى على مدرستي دير القمر وشحيم، وأضاف اليهما مدارس أخرى فيقرى وبلدات جبل لبنان، وعيّن وكلاء عليها، أطلق عليهم لقب “وكيل العارف”. والفرنسية.

كانت جميعها رشدية على غرار مدارس الدولة، كما دعمها بمدرسيين اختصاصيين لمادة اللغة العربية والفرنسية. (أنظر جدول رقم2).

كان المسؤولون الرسميون وأهالي ناحية إقليم الخروب يولون المدارس الرسمية الرشيدية اهتماماً خاصاً ورعاية كاملة فقاموا بتأليف لجان أهلية لمساعدتها مادياً وتأهيل ابنيتها وتوسيعها. مع اهتمام المتصرف فرنكو باشا (1868 – 1873) بمدارس المعارف، ومع المساعي التي قام بها عمر أفندي الخطيب عضو مجلس إدارة متصرفية جبل لبنان، أنشئت عام 1869م. أربع مدارس حكومية رشيدية في قرى: برجا، الزعرورية، مزبود، وعانوت.

مع أواخر القرن التاسع عشر اتى الى برجا الشيخ محمود البربير مبتعثاً من قبل دائرة المعارف في بيروت لتعليم أبناء القرى القراءة والكتابة وحفظ القرآن والتربية الإسلامية. كان من أوائل الذين نشروا الكتاتيب في أنحاء القرية لتعليم ناشئتها، الشيخ محمود عمر البربير، بيروتي الأصل (1865-1970 ) خال رئيس مجلس الوزراء الأسبق صائب سلام ، والده عمر البربير من مشايخ بيروت الكبار وزعمائها المشهورين .

 

والدته عنبرة الأغر،استقر في برجا وتزوج من هناء الحاج ، فأنجبت له : عبد المجيد وعبد القادر وعبد الفتاح وشريفة زوجة حسن درويش أبو مرعي دمج . أخوه الشيخ محمد البربير ، خطيب الجامع العمري الكبير المولود عام 1857.

درس الشيخ محمود الطب في كتاب القانون لابن سينا وبرع في علم الأعشاب وتفنن فيه ، وكان يداوي المرضى لا في برجا وحسب ، بل وفي قرى الشوف حيث كان سكانه يقصدونه من كل ناحية .

إبّان الفترة التي درس فيها قدمت بحقه شكوى تزعم أنه مقصر في التعليم ولايوليه الوقت الكافي ممّا ينعكس على مستوى الطلبة، فتولّت بعثة تعليميّة موفدة من بيروت اختبارهم، فجاءت نتائجها لتشهد للشيخ محمود وتفانيه في خدمة الناس، وأعلن ذلك في إحتفال عام على ساحة عين برجا. ونتيجة لهذا النجاح الباهر وفي عام 1915 سلمت إدارة مدارس شحيم للشيخ البربير، الذي نقل من ادرة مدرسة برجا. فعززها بثلة من المدرسين الاختصاصيين في اللغة الفرنسية واللغة العربية والدين والأخلاق والحساب والرسم والاشغال والرياضة…. وكان النجاح حليفها كما نجحت نظيرتها مدرسة برجا.

مع انتهاء إدارة حكم المتصرفية عام 1914 كان عدد مدراس الشوف الرسمية قد بلغ 44 مدرسة أي بنسبة 32,35% من اصل 136 مدرسة مجموع مدارس المتصرفية آنذاك،

تطور التدريس بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وانتقاله من الكتاب وتحت السنديانة الى المباني المدرسية الحديثة والمكاتب والمعاهد المتطورة.

أحدثت تلك المدارس والمعاهد أثرا ً مهما ً في الحياة العلمية والفكرية بما نشرته من معارف وعلوم جديدة، وبما أقامته من مؤسسات تعليمية حديثة ساهمت في نشر العلم والثقافة في بلاد الشام عموما ً ولبنان خصوصا ً، كما كانت حافزا ً للسكان بإنشاء مؤسسات تربوية مماثلة. واحصى كتاب “حصر اللثام” (1895) نحو 330 مدرسة مختلفة الحجم منتشرة في أكثر من ألف قرية في أنحاء متصرفية جبل لبنان. وذلك ليس عائدًا فقط إلى المدارس الإرسالية، ولكن أيضًا إلى تنظيم الدولة العثمانية أمور التعليم في بلاد الشام، وإصدار نظام خاص، مما ساهم في افتتاح مدارس متفاوتة الأهمية، من حيث الدور الذي لعبته.

وفي كل الأحوال، سبقت المؤسسات التربوية الخاصة تلك الرسمية بعقود، وخرّجت الكتّاب والأدباء والنخبة التي ستشكل نواة النهضة العربية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ليس فقط في بلاد الشام، بل في مصر أيضًا.

 

المراجع:

مباحث علمية واجتماعية جزءان إسماعيل حقي. منشورات الجامعة اللبنانية

مجلة برجا التراث ، العدد الأول بحزيران 2001

بنية النظام التربوي في لبنان

تاريخ إقليم الخروب ،محمدالميسو الحجار

تاريخ إقليم الخروب في العهد العثماني د.طارق قاسم

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى