برجا الآنتعرف على بلدتكوجوهٌ من بلدتي

قراءة في رواية ” برتقال مُرّ ” لـ بسمة الخطيب

22

كتب محمد كمال :

لبنان حفيد أحفاد كنعان، أرض الجمال والإبداع، كنعان الذي وهب البشرية رسم الكتابة والكتاب، أرض الخضرة وأنْبُعِ الماء الزلال وأحلى وأطعم ما تنتج الارض من نعم الفواكه ومآدب الطعام.

كل شيء في لبنان حلو للسمع والبصر والمذاق، فكيف «برتقال مر» يكون عنوان كتاب، والكاتبة أديبة لبنانية من أبوين من نبت لبنان جداً من أجداد؟ هذا الاتجاه المعاكس في عنوان الكتاب يستوقف عشاق لبنان ويسترعي الانتباه ويوقظ حيرة التساؤلات وصولاً الى سر مرورة البرتقال.

معرض الكتاب في بيروت كان المكان، واللقاء، في بادئ الأمر، كان مع عنوان الكتاب، لا الكتاب بذاته، وقفت أتأمل الكتاب في عنوانه وأنا متردد، هل اقتنيه أم أمر عليه مرور الكرام شأن الحال مع جُلَّ الكتب.

من حسن حظي أن المؤلفة كانت تدشن الكتاب وتتكرم بكلمات الإهداء مما يضفي قيمة خاصة على الكتاب وشرفاً لمن يقتني الكتاب. مثل أكثر دور النشر فإنها تعطي تعريفاً موجزاً عن المؤلف والمؤلفة على الغلاف الخلفي للكتاب، ودار النشر لرواية «برتقال مر» وهي دار الآداب توجز التعريف بهذه الكلمات « بسمة الخطيب كاتبة من لبنان، درست الصحافة وامتهنتها حتى اليوم. عملت في الانتاج التلفزيوني، وكتبت السيناريو.

صدرت لها عن دار الآداب مجموعة قصصية بعنوان «شرفة بعيدة تنتظر «. ولكن التعريف الذي تنطق به الرواية، شكلاً ومضموناً، يتعدى هذا التعريف المبتور، فالكاتبة بسمة الخطيب هي بصمة متألقة في فضاء الأدب الروائي بكل تجليات جمال الأسلوب ورسم لوحات جذابة لبناء مواضيع الرواية.

دار الآداب وعلى الغلاف الخلفي للكتاب تعطي تعريفاً عن محتوى الرواية، مختزلة التعريف في قصة حب من طرف واحد، وكأن الرواية، في رسالتها الثقافية، محصورة في حيثيات هذا الحب وما يواجهه من استحالات ذاتية ومحاذير موضوعية نابعة من المحظور ومن اليُسْرِ المُعَسَّرْ في ذات المجتمع القروي المكبل بالعرف والتقليد.

إن قراءتي لهذه الرواية، وهي من الروايات القليلة في جرأة موضوعيتها وتعدد عناصر الموضوع فيها، تستبصر أن عنصر الحب من طرف واحد، ليس إلّا ذاك الخيط الرفيع الذي يمتد من أول الرواية الى خاتمتها، بينما قلم الكاتبة هو إبرة الخياطة، في رأس الخيط، التي تخيط بها ثوباً كاملاً مكونا من قطع قماش متعدد الألوان، وكل قطعة قماش هي وجه من أوجه المجتمع القروي الذي تروي حكاياته الواقعية والأسطورية، ومعاناة الانسان فيه، وخاصة الأنثى.

الرواية ترسم لوحة واقعية تكاد ان تلامس تعرجات علم الأنثروبولوجيا في طرح حركة ونشاط الانسان وترسم صورة شفافة تعكس واقع الانسان وبالأخص هواجس ومخاوف الأنثى في بعض الجوانب، وهذا الجانب الأنثوي في الرواية، ترسمه ريشة صريحة وشفافة لواقع المجتمع العربي الذي مازال ملوثاً بالعنصرية الجنسية ضد المرأة.

إن النَفَسَ الانثروبولوجي بارز في الرواية، من حيث أن اهتمامات الأنثروبولوجيا تتمركز حول تفاصيل الجزءِ المُجَزَّأ في حياة الانسان بكل جوانبها، من علاقات عائلية وإنسانية وإنتاجية، ومكونات العقيدة والطقوس، والحكايا الشعبية المستأصلة من الأساطير والمكونة لها، الحياة اليومية ومهارات الحاجة لها، وقد استثمرت الكاتبة مساحة مجزية لعرض فنون الطبخ وما تتطلبها من معرفة ومهارة، وذلك لأن الطهي بما ينتجه من لذائذ الطعام يلبي حاجة المجتمع القروي الذي تنحصر متعة العيش له في تلذذ الاكل ومتعة العشرة في هجعة الليل، والتجمع حول متحدث او متحدثة تروي حكايا الماضي الأسطوري والبطولي، وقصص الخرافة الممتعة منها والمرعبة.

و هذا الخيط الرفيع يمر في مسيرة الخياطة بجانب لغوي له تداعياته الخاصة والعامة، وهو موضوع جدل وجدال وفهم وخصام، الرواية تتخللها لوحات جذابة من الحوار باللهجة المحلية «اللبنانية»، وهنا مربط الفرس في جدلية الجدال وتضارب الآراء حول إدراج لهجة عامية في عمل أدبي.

إن هذه اللوحة المتناثرة من الحوار باللهجة المحلية أعطت الرواية جمالها وكمالها، وإلّا كيف يمكن رسم صورة أمينة وواقعية عن حياة الانسان في قرية، حيث لهذا الانسان كرامة وهوية، واللغة – لهجته المحلية – التي يتواصل بها في مجتمعه هي أبرز عناصر هويته.

وفي هذا المنحى من خصوصية اللغة في المَحْكِيِّ من المرادفات المحلية تلتقي الكاتبة مع الشاعر الكبير سعيد عقل، الذي كان من دعاة التفرد باللهجة في لغة مستقلة، والشاعر إلياس لحود الذي يكتب أشعاراً باللغة المَحْكِيَّةِ لبنانياً، وتاريخ اللغات شاهد على أن التفرع من لغة أم الى لغات مستقلة أمر طبيعي، حصل سابقاً وسيحصل حاضراً ومستقبلاً.

الأسلوب يتخطى نهج السرد التقليدي الى فضاء واقعية الصور الاجتماعية المعاشة، حيث تعدد الصور وتشكلها وتلونها في لوحة واحدة يتجمع فيها مزيج الأحداث بشخوصها وما يتزامن معها من أفكار وانطباعات، وهذا هو الواقع، الأسلوب بصمة خاصة بالروائية ذاتها، فالرواية لها شخصيتها المتفردة في شخص المؤلفة.

إعتمدت الكاتبة تنظيم الرواية في فقرات قصيرة مريحة للقارئ، وكأنها أوراق شجرة كبيرة، الكلمات فيها ألوان والتعابير مزيج من ألوان تعبر عن مفهوم بألوان مختلفة، وهذا ابداع فني في صياغة المفاهيم والمعاني عامة، عندما تكون الكلمة لوناً فان قلم الروائية يتحول الى ريشة فنان مبدع.

ألوان التعبير تستوقف القارئ ليعيد القراءة بتذوق وإعجاب، خاصة وأن إبداعية التعابير في الرواية توازي مختصر الأفكار والأمثال، مثلما تتحول بعض أبيات الشعر إلى حِكَمٍ وأمثالٍ دارجة، كذاك البيت للمتنبي: إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم و. الذي أصبح مثلاً على جميع الالسن الناطقة بالضاد. اللوحات التعبيرية في هذه الرواية كثيرة وغنية، والقارئ يجد نفسه يهيم في مدينة جميلة بالجمال ذاته، مدينة غنية بأحجارها الكريمة، كل خطوة يخطوها في هذه المدينة هي خطوة وقوف عند محطة، حيث تشده تلك المحطة الى بنيانها المعماري الفريد ومحتواها الأصيل.

الرواية أصيلة في الشكل المعماري والمحتوى الحياتي الحيوي، وهي رسالة ثقافية وفكرية شفافة وأمينة، وقلة من الادباء من أخرج من مناهل فكره وابداعه هذا الشكل وهذا المضمون.

و خلاصة القول في عنوان الكتاب، إن الذي قد يستقرئه القارئ هو أن البرتقال، وهو حلو المذاق في طبيعته، ولكن البيئة المحيطة بالبرتقال قد تكون مُرّ المذاق.

عن جريدة الأيام البحرينية العدد 9389 الثلاثاء 23 ديسمبر 2014 الموافق غرة ربيع الأول 1436

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى