من جراب الأمس

أميركا في برجا

كتب الأستاذ جمال محمد نور المعوش:

الأطرش هو أحمد محمد شبو. أصيب بالصمم والخرس وهو طفل صغير.

مهنته كانت شغل الفاعل. عمل طوال حياته في نقب الأراضي وإستصلاحها وفي تعمير الحيطان بحجارة الصوان وغيرها من الأشغال التي تتطلب طاقة وهمّة.

رافقه الفقر في طفولته وشبابه، لكنه ورث عن والده قطعة من الأرض تقدر مساحتها بحوالى عشرة آلاف متر مربع في الصوّانة، هي عبارة عن أرض سليخ جرداء فيها بعض الجلول التي كانت تزرع قمحاً.

و”أميركا” هي التسمية التي أطلقها هو على قطعة الأرض هذه بعد أن استصلحها وزرع فيها أطايب الدنيا من أشجار مثمرة وفاكهة وخضار، حتى بدت في تنظيمها روعة في الدقة والجمال، وهو مادفعه لأن يسميها بهذه التسمية، “أميركا” المشهورة بتقدمها وبطبيعتها الجذابة.

ولعمله في أرضه حكاية أذكرها جيداً بحكم مجاورته لبيتنا، ورأيت من المفيد أن أكتب عنها لتعرف الأجيال اللاحقة مدى الجهد والتعب الذي بذله هذا الرجل.

كان يعمل ليل نهار وعلى ضوء القمر في نقب الأرض وتخصيبها ونزع صخورها.

كنا نعرف أنه يعمل ليلاً من نوبة السّعال القوية التي تنتابه، فيقول والدي: هادا الأطرش عم يشتغل.

حيطان من حجارة الصوان التي كان يقصّبها ثم يرصفها على الحائط وكأنها مرسومة بالمليم فتتجاوز المترين في علوّها، وبين كل جلّ وآخر منفذ، وفي داخل الحيطان فراغات على شكل حمّام صغير، كان يستحمّ فيه أحياناً بعد أن يضع على بابه قطعة من الخيش العتيق ويحضر الماء الساخن بوضعها في تنكة تحت أشعة الشمس.

على الحيطان من فوق، العرائش والدوالي مرفوعة على أغصان يابسة من شجر الشوح والزيتون والصنوبر، وفي وسط الجلّ أشجار مثمرة من مختلف الأنواع كالتين والزيتون والخوخ والإجاص والمشمش والتوت مع خروبة في الزاوية غير المنقوبة، إضافة إلى صبيرة في الزاوية الأخرى المقابلة، ناهيك عن أشجار اللوز والرمان.

وعلى رؤوس الغصون قشور بيض مرفوعة على قصب، إضافة إلى أحذية عتيقة مقلوبة لترد عين الحساد، مع قمصان وجاكيتات بالية منصوبة على أوتاد على شكل رجال تُخيف الطيور  وتبعدها عن أذية الثمر، وفي أماكن أخرى، خضار وبندورة ومقطة ومشتل بقدونس ونعنع وغيرها.

الصيف هو الفصل المفضّل للعمل والإنتاج، فيه ينضج العنب والتين وسائر الفاكهة.

حياته كلها شغل. تراه يستيقظ مع ضوء الفجر وينهمك في قطاف العنب والتين والصبير.

إنه فصل الفرج المادي له. قسم من الإنتاج يرسل ليُباع في حسبة بيروت والقسم الآخر يباع في وسط الضيعة على ساحة العين، يضعه على ظهر دابته التي كانت قوية مثل البغال. حديثه بالإشارة وبالصوت الخائر الخشن والخافت من دون كلام، ولكن من يَعرفه يفهم عليه.

في ساحة العين يبيع ماجادت به أرضه، وعنده زبائن كان على رأسهم حكيم الضيعة في ذلك الوقت محمود عبد المجيد البربير، وعندما كان يريد أن يُعرّف عنه يشير بوضع يده على قلبه فيُفهم منه أنه يقصد الحكيم.

يعود من قلب الضيعة محملاً بالحاجات التي اشتراها بعد أن يبيع بضاعته. والحاجيات هي السكر والجبنة والشاي والبن والدخان.

يصل إلى أرضه فيستريح في عرزاله المنصوب في أول قطعة الأرض، وهو عبارة عن خيمة صغيرة محمولة على أعمدة من شجر الصنوبر مدفوفة على الداير بشجر الوزّال تعلو عن الأرض حوالى المترين، يصعد إليها لينام بواسطة سلم خشبي ينزعه بعد أن يغادر حتى لا تصعد الحيوانات إليه، وفي أرض العرزال عدته موضوعة في صندوق من الأشجار، ثم بعدها يعود إلى عمله المعتاد.

في المساء سهرته مع أبو كامل خضر قموعه وأبو خليل أحمد خليل ملحم شبو ووالدي على سطح بيتنا على ضوء القمر مع اللوكس(ضوء قديم) ويسرد بحركاته ماحدث معه في الضيعة، يقلد مشية هذا وحركات ذاك ممن يكون قد رآهم في الضيعة فيضحك الجميع.

بعد انتهاء فصل الصيف يعود ليلاً إلى بيته المؤلف من غرفتين في ناحية المعبور، وهذا البيت بناه هو بنفسه.

وفي النهار يعود إلى الأرض ويذهب إلى الحقول المجاورة يقطع أغصان الزعرور ليصنع منها العصيّ الصغار ويحفر على رأسها وبدقة بالغة أشكال حيوانات، يبيع الواحدة منها بخمسة قروش.

إستمرت حياة أبو محمد على هذا المنوال إلى أن شقّت الكرّوسة وفلشت بالإسفلت وتطورت الحياة وساب الرزق كما كان يردد الكبار.

ما عاد أحد يرغب بالزراعة واندفع الشباب نحو الوظيفة ومنهم أولاده، حيث بنى كل واحد من أبنائه بيتاً في الأرض بعد أن قطّعت أشجارها مثلما فعل الناس في سائر الضيعة.

مرض الأطرش فأخذوه إلى الحكيم في صيدا، ثم مالبث أن توفي عام 1984عن سبعين عاماً.

لم يبقَ من النقبة أو الصيرة كما كانوا يسمونها غيرُ أشجار قليلة متناثرة عطشى وكئيبة بعد أن غاب راعيها.

رحمة الله عليه وعلى أمثاله من الآباء والأجداد وأهل الكد والجد والعشرة الطيبة ممن حصّلوا قوتهم بجهدهم وعرقهم، وبالرغم من حالة الفقر والمعاناة التي عاشوها إلا أنهم كانوا سعداء وأكثر منا بكثير، أما نحن اليوم وبرغم كل مباهج الحياة الحديثة والبحبوحة التي نعيش فإننا عبثاً نبحث عن السعادة لأن الإستقرار النفسي والإجتماعي غير متوفر والعلاقات الإجتماعية بين الناس أصبحت علاقة منفعية مصلحية لا مكان فيها للقيم والمعايير التي تربى عليها الآباء والأجداد، لكن الحنين إلى الماضي ومحاولة تجديده سيبقى موجوداً مابقينا.

عن “برجا الجريدة” العدد الثاني نيسان 2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى