قل كلمتك

من فرعن الفرعون ؟!

كتب الأستاذ محمد الرميحي : مبكر جدا ً الحديث عن تأثير ثورة الشباب في مصر ، سواء في مصر نفسها أو ما حولها ، فالتاريخ لا يزال في حالة سيولة ، ربما تكون النتائج أكبر من خيال المتابعين أو أقل من رغبات المتمنين . قد تأخذنا الأحداث في صيرورتها إلى إيران الثمانينيات من القرن الماضي ، وقد تأخذنا إلى أوروبا الشرقية في تسعينياته ، أو قد تؤول إلى باكستان ضياء الحق . الاحتمالات كلها مفتوحة ، وفي السياسة توقع اللامتوقع . أريد أن أناقش هنا « المنطقة العمياء » التي كثيراً ما تظهر في ممارسة السياسة العربية ، وهي أن هناك مساحة لا يراها قائد المركبة وهو يسيرها فتحدث المفاجآت وربما الكوارث ، ويلتفت حوله مصدوماً من المفاجأة ، وهي في الحقيقة كانت مكتوبة على الجدران ، المنطقة العمياء في السياسة العربية هي سقف الحريات المتدني في قرن من الزمان مختلف . ما نسمعه اليوم في وسائل الإعلام المصرية عن خطايا « العهد السابق » تشيب له الولدان ، كما هي قصص التجاوزات غير المعقولة في تونس . قصص مصر أقرب إلى الخيال ، حيث يسردها أبطالها على برامج التلفزيون يوميا ً ، ربما بكثير أو قليل من المبالغة ، قصص مصر أكثر بروزا ً لأن موقع مصر العربي مؤثر ، وليس لأنها الأفدح ! .

هذا اغتصبت له أرض ، وذلك والده أو قريبه قد اعتقل وعذب في قسم الشرطة حتى مات ، وآخر زج بالسجن ، لأن أحد المتنفذين يريد أن يستولي على الوكالة التجارية الخاصة به ، وهذا قتل له أخ في السجن بعد أن سحب من المقهى ، وقصص أخرى كثيرة بعضها مرعب وبعضها مخجل أن تحدث في القرن الواحد والعشرين .. والحبل على الجرار .. كلها تقول إن هناك طاغية خلف الستار يغتصب حقوق الناس ويهين كراماتهم دون هوادة وبشكل منظم ، حتى جمعية الشرطة نشلت لها أرض خصصت لعائلات الشرطة من قبل أحد المتنفذين ! . إختفاء هذه القصص في السابق بسبب نقص مرضي في الحريات .

هناك مثل في الخليج ، لا أعرف إن كان متداولا ً في بلاد عربية أخرى ولو أني لا أستبعد ، يقول المثل « إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه » المجازية هنا أن الواقف له أصدقاء كثر بالحق وبالباطل ، أما إذا وقع فإن السكاكين تنهش في جلده وينحره حتى أقرب المقربين بسبب اتساع النقطة العمياء ، وهي قمع الحريات .

ما يقلقني هو ليس الماضي ، إنما المستقبل ، وهو كيف يمنع الفرعون من الفرعنة ؟ كيف يمنع خلق طاغية آخر مثل بن علي ومثل مبارك !

أرى أن الناس يفرعنون الفرعون بسلوكهم ، حتى يتفرعن عليهم . القصص التي سمعناها حتى الآن من الذين عملوا قريبا ً من بن علي وقريبا ً من مبارك ، أنهم بشكل أو بآخر ، قد ساعدوا في صناعة الفرعون وتشكيله حتى انقلب على صانعيه .

ثقافة صناعة الفرعون ثقافة عربية وربما أيضا ً مصرية . لا أقلل من الأصوات الشريفة التي كانت تنتقد « مسيرة الفرعون » في السر كثيراً ، وفي العلن أحيانا ً في مصر أو في تونس ، وهي تفعل ذلك بشجاعة في أماكن أخرى من عالمنا الفرعوني / العربي ، وكلما زاد الفرعون في فرعنته زادت الأصوات التي تئن من تلك الفرعنة بصوت مكبوت . ولا ألوم أيضا ً السكوت عن الفرعنة ، فإن ثمن البوح بالقهر عال التكلفة في مجتمعاتنا ، إلى درجة أن ظهر كاتب كبير مصري على التلفزيون مؤخرا ً وقال بشجاعة : ما زال الرقيب الداخلي يمنعني من الحديث !! .

أخذا ً بذلك كله ، أريد أن أشير إلى مساهمات كثيرين في صناعة الفرعون . يصنع الفرعون تزلفا ً عندما ينزلق جدول المجاملة إلى نهر النفاق ، اقتناصا ً لرضا أو إخفاء لحقيقة . ويصنع الفرعون خوفا ً من جلاوزته التي يمكن أن تكيل للناس القهر والتدمير وهي قادرة . كل الشخصيات المناوئة للفرعون يؤلب عليها أعوان الفرعون شياطين الإنس . ويصنع الفرعون تحت غطاء الدفاع عن « الوطنية » أو عن « البلد » كما يصنع الفرعون من جراء تضخيم ما قدمه من « تضحيات » وخدمات للشعب أو جراء « عبقرية » لا توجد إلا عنده ، كما يصنع الفرعون عندما تكبر صورته في الشوارع وتغمر الأمكنة .

النتيجة واحدة ، مع تعدد المظاهر والسلوكيات ، هناك من يصنع الفرعون ثم يشتكي مر الشكوى من أعمال الفرعون وطغيانه . فكيف يمكن أن نمنع صناعة الفرعون سواء الفراعنة الأصغر ، أو الفرعون الكبير ، أي « صنم الفراعنة » . ففي عالمنا اليوم ومع وجود أشكال التعبير المفتوحة من السهل نقد الفرعون عن بعد ، ولكن هذا النقد يأتي بعد أن يصنع الفرعون ويتضخم وتبرز أنيابه . يسكت البعض عن نقد الفرعون لأنه يمتطي « الوطنية » ويسكت آخرون لأنه يمتطي « الإسلامية » ويسكت البعض لأن الفرعون يمتطي « التنموية » أو « القمعية » كل هذه الذرائع ، الظاهر منها والباطن، يستخدمها البعض لتضخيم شخص الفرعون، حتى يصدق هو العبقرية التي تسكنه فيجاوز العدل إلى الظلم ويترك حاشيته تعيث فساداً.

مصر بلاد عظيمة وكان هناك من يعرف على وجه اليقين أن شعب هذه البلاد يتحمل صبر أيوب، ولكنه عندما يثور لا تقف أمام ثورته سدود. هكذا فعل بعد «25 يناير». إلا أن السؤال الأهم بل والتاريخي كيف يمكن له – أي هذا الشعب – أن يمنع ظهور فرعون جديد؟.

الضمان ليس فقط خلق مؤسسات تسهر على تطبيق القانون، من المفروض أنه وضع أصلاً لخدمة كل الناس، وليس الأقلية منهم، والضمان ليس تأكيد التوازن بين سلطات الدولة والمجتمع المدني، منها السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، في الشكل الرسمي، ومؤسسات المجتمع المدني في الشكل الشعبي. ليس هذا كافياً.

المطلوب محاربة ثقافة «الفرعنة» التي تتدرج من المديح إلى التمجيد إلى التأليه ثم الفرعنة! ثقافة الفرعنة ثقافة منتشرة على مستويات كثيرة، تمرر تحت أغطية مختلفة. فوسائل الإعلام يمكن أن تكون وسيطة «للتفرعن» إلى درجة قبيحة، ولقد شاهدت في بعض وسائل الإعلام هذا النوع من زرع «التفرعن» من خلال أحاديث البعض عن البطولات السابقة للوقوف في وجه النظام القديم، أو تقريع واتهام شخوص في النظام السابق – ربما دون دليل مادي. شاهدت الفرعنة في انقلاب بعض الشخصيات – بين يوم وليلة – بين مؤيد للنظام حتى العظم إلى ناقد له حتى العظم، كما شاهدت الفرعنة في تقريض النظام الجديد وبعض شخوصه، على الرغم من أنه لم يتبين مساره. أي أن الفرعنة لها أوجه كثيرة تكبر اعتماداً على ضعف الذاكرة أو ضعف الأخلاق أو كليهما.

ثقافة الفرعنة ليست جديدة في تراثنا العربي، بل هي قديمة، وسببها كما يقول لنا الدارسون وجود خلل في المعايير الأخلاقية تدفع غالبية أفراد المجتمع لتقديم رغباتهم الشخصية ومصالحهم على أي قيمة عليا. الإحساس بفقدان المعايير والحط من تطبيق القانون بإنصاف تتراجع معه القيم الكبرى في المجتمع. فيصبح النقد الجارح أو المديح غير المبرر هو البضاعة التي يتداولها الناس. المديح يفضي إلى ثقة مزيفة بأن «الجميع معي» ويفقد القائد أو الرئيس شعوره بأولويات الناس، أو بالحكمة القائلة إن نصف الناس أعداء لمن حكم، هذا إن عدل!! أي اتساع رقعة «المنطقة العمياء». فيصفي المعارضة حتى المدجنة والمسالمة منها فتغيب عنه الحقائق.

ينقل عن المرحوم الملك الحسن الثاني ملك المغرب السابق أنه قال: إن المعارضة هي عيناي الخلفية. أي إنها تريني – كحاكم – ما لا تراه عيني الأمامية أو حتى تزيفه، أي تضيق ما أمكن «المنطقة العمياء».

في حال عجز النظام – أي نظام سياسي – عن خلق آليات للتنفيس أو تزييف تلك الآليات والتعامل معها شكلياً دون تفعيل، أو جعل الوطن نادياً للنخبة – ينقل الفعل السياسي من المؤسسات إلى الشارع، تلك قاعدة حدثت في كثير من أركان الأرض في العشرين سنة الماضية، ويمكن أن تحدث، والعرب ليسو استثناء.

ما يفعله المصريون في بلادهم في غضون سنة من الآن سوف يترتب عليه مستقبل الشرق الأوسط. إن عادوا من جديد إلى فرعون بملابس ديمقراطية أو دينية أو شيفونية، فإن التاريخ سوف يعيد نفسه بخلق فرعون جديد، وإن قرروا أن يهجروا تراث الفرعون ويقيموا دولة ديمقراطية تعددية حديثة وبرلمانية، بعيدة عن الفرعنة، فإننا سوف نشهد حقيقة لا مجازاً ميلاد شرق أوسط جديد. فهل يفعلون.

آخر الكلام: تحدث كثير من المعلقين المصريين على أن ثورة الشباب غير مسبوقة وتاريخية وليس لها مثيل في التاريخ الإنساني و.. و.. وهذا تفرعن صغير، فأين سابقة البوعزيزي التي ألهمت الشباب!! التواضع يقلل من «الفرعنة»! والعكس صحيح!! … نقلا ً عن جريدة الشرق الأوسط .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى