وجوهٌ من بلدتي

نور الدين حوحو… حكاية النبلاء

عندما جاءني الناعي بخبره قلت : هذا حقٌ يشبه الباطل!

إبن ستة وثمانين عاماً هو، ولكن وقعُ موته كان وكأنه ابن عشرين.

كان كلما تسرب إلي طرفٌ من الكسل في غمار الشأن العام، يحضر كبيرنا ليشعلني حماسة واندفاعاُ.

كان الأستاذ نور الدين خليل حوحو مبتلى، مبتلى بعلوَ همته وقوة عزيمته، فإن من علت همته وقويت عزيمته إذا لم يساعده الزمان عاش في عذاب ومات في عذاب.

حكاية نور مع بلدته برجا الشوف هي حكاية كل مناضل ورفيق ومجاهد… هي حكاية الرواد والمحترمين، حكاية الأنقياء، هي حكاية الكبار.

مهجوس بقضايا بلدته، مغرم بإنمائها والجري وراء مصالحها.

نزل إلى المدينة باكراً، يحمل هموم بلدته في كل الدوائر والمؤسسات والوزارات.

حضر كبيرنا في كل محطة واستحقاق برجاوي، في النادي الثقافي ونادي الديماس والنجدة الشعبية ومستوصفات الفقراء، وفي مشاريع الطرقات، وفي أحلام الشباب والناس وملفات الإنماء والحياة.

صديقي، كل زخارف الدنيا تذهب، كل مناصبها وكل جاهها ومالِها وغشاوتها، ويبقى أثر أمثالك في ضيعتي وبصمات أياديك في كل ناحية.

علوُّ همة ونظافة كف ورحابة صدر وأنس حديث.

موت الرجل الهمام يُشجي… بموتك انقبضت صدورنا… قنديل كبير ينطفىء عندنا.

سيدة نقلت مع زوجها الضابط إلى صحراء موحشة، فضاقت ذرعاً بمعيشتها وهمّت بتركه وحده والعودة إلى أهلها، ولكن خطاباً ورد إلي – تقول – من أبي، من سطرين غيّرا مجرى حياتي وجاء فيهما : “من خلف قضبان السجن تطلع إلى الأفق اثنان من المسجونين، فاتجه أحدُهما ببصره إلى وحل الطريق والآخر تطلع إلى نجوم السماء”.

من قديم عرف الناس بتفاوت الهمم واختلاف الطاقات.

الأستاذ نور 1932 -2018 ما أشك لبرهة ولمعرفتي الوثيقة به، أنه مابرح وإلى آخر أيامه يتطلع إلى نجوم السماء.

هذه سيرة النبلاء، الذين تطغى مصالح الناس العامة عندهم على مصالحهم وحظوظهم الخاصة.

وقد بلوتُ كثيراً من الناس، منهم من لا يريد أن يتحرك من مكانه، ومنهم من يعجز عن إزاحة حجر قدامه، ومنهم من يرضى بالحياة الدون، والراضي بالدون هو إنسان دنيّ.

حدثني أنه اتصل بمجموعة يحسبها فاعلة في الشأن العام في برجا، يحثها أن لا تترك شؤون البلدة دون متابعة أو مبادرة، أن لا يقفوا مكتوفي الأيدي، ألا يستسلموا وألا يتوانوا في خدمة أهلها والسعي في رفعتها ورقيها… قال إنه أعطاهم رقم هاتفه بانتظار ردودهم !!!

ولكن… قال لي والأسى يعتصره : ما اتصل أحد!

كان يقول مع القائل : لو أن كل واحد منا عمل ماهو قادر على عمله لأذهلنا أنفسنا.

ومن يقرأ كتاب ترشيحه لعضوية مجلس بلدية برجا عام 2004 يدرك همة نور، همة من كان قد تجاوز السبعين من عمره آنذاك.

في أحيان فاصلة، بلدتي تغفل عن تقدير رجالات فيها حقّ قدرها.

مات الأستاذ نور ومالُه مالٌ حلال، ولا عقارات ولا عمارات، وهو الذي كان بمقدوره في الوظيفة التي كان يشغلها في إحدى الوزارات أن يكون من الأثرياء، حتى أنه سلم شقته المستأجرة في بيروت قبل أشهر، وما أخذ خلوّها قرشاً واحداً.

أستاذنا… سوف نذكرك كلما اخضرّت أوراق السنديان في كرومنا، في بيوت الأحباب كلما انفتحت شبابيكها المغلقة وشرعت درفاتها إلى النور… في الربيع حينما تطلع الزنابق على التلال، حين تنتشر الأطياب في التراب… في كل ربيع حينما يعود الحبّ إلى غابة النرجس.

—————–

المقالة منشورة في “برجا الجريدة” العدد الثالث تموز 2018 الصفحة 8.

رثاء الشيخ جمال بشاشة للأستاذ حوحو في قاعة الوالديْن عصر يوم الأحد في 6 أيار 2018 بمناسبة مرور ثلاثة أيام على وفاته.

ويظهر في الصورة مع ابنتة شقيقته ندوة حوحو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى