برجا الآنمن جراب الأمس

موسم الزيتون في برجا… موسم البركة

كتب بشير علي الشمعة:

كان موسم الزيتون يجمع كل أهل الحي في جلّ واحد. أتذكّر جدتي كيف كانت تجهز “الوزرات” لكنائنها وأحفادها، تصنع للجميع “وزرات” صغيرة حسب أعمارهم وكيف كان الجيران يشاركون معها وكيف كنا نستيقظ على صوتها عند بزوغ الشمس وهي تقول” يلاّ تلقستوا يا ولاد”.

عندها نحمل “القماميط” من مختلف المقاييس ونأخد دربنا في طريقنا إلى كرومنا. ولكم كانت متعتنا كبيرة عندما كنا نضع “القموط” بين رجلينا وكأننا نركب حصاناً… إييييه. وأتذكرها عندما كانت تنبهنا أيضاً بكل إنسانية وطيبة: ” ليكو خلّولكن كم حبة للعفّارة، حرام”.

كنا نقضي نهاراً ولا أروع في الحقل، “أناس عم تمشّق وناس عم تعفّر وناس عم تلمّ من الأرض وناس عالعباب، وأحاديث من بِني وبني بين هالنسوان. والنسوان تحكي مع بعضا من قاطع لقاطع: “ولو وين صرتو وكيف الموسم وان شالله هالسنة حاملين شياّتكن؟ والعالم اللي تمرق بأحلى التحيات: العوافي يا جيران وعالبركة يا إم محمد ويعطيكن العافيه يا خواتي. وعندما يبدأ وقت الغداء تزدحم الحقول بروائح طناجر السميد ببندوه والمدردره وكبّة البطاطا والزيتون والخضرا وخبز الطابوني الطازه من إيدين ستي يلي تكون عم تحضر الغدا كل النهار  .

قرب المغيب يبدأ النسوة بتجميع الزيتون بأكياس الجنفيص ويبدأن بتمزيق بعض الملابس القديمة ليصنعن منها “زياق” ليربطن الأكياس التي ستحمل فوق الرؤوس. وفي طريق الرجوع إلى البيوت بعد تعب اليوم وعنائه تشرع النسوة بمواويل العتابا والميجانا طوال الطريق حتى عالبيت.

ترجع النسوان محملة بأكياس الزيتون والأولاد “معبايين وزراتن” وهم في غاية السرور، يربطونها على خواصرهم النحيلة وهم يمرجحونها يميناً وشمالاً ينتظرون المكافأة. جدتي سياستها كانت تشجيعية. ولكننا كنا نرافقها لأننا كنا نحبها ونحب موسم الزيتون.

عندما يأتي المساء نبدأ بـ “فلش الزيتونات بالأوضة”، ونأخذ بـ “تنقايتن حبة حبة”، الحبة الكبيرة للرصّ، والحبة الوحيشة للصابون بزيت، والباقي للعصر. وما زلت أذكر كيف كانت تراقبنا وتوجهنا وتقول: “شيل هالورقة يا صبي، بدك صاحب المكبس يقول ليكو زيتونات الحجة كلياتهن ورق” .

وينتهي موسم “الفراط”ويبدأ “الديران”. عندما يحين وقت عصر الزيتون في المكابس كنا نسهر الليل كله  في المعصرة، منا من ينام على أكياس الزيتون، ومنا من يغفو في حضن جدته بانتظار أكل الزيت “بْعَيّه” الطازج وتغميس الرغيف به. “الرايح والجايا تتكمش في ستي وتطعميه” الله يرحمك يا ستي من وقت اللي غبتي فيه وراح معك منديلك الأبيض اللي كان يضل عا راسك قلّت البركة بالزيتون  !

“يمكن الزيتون زعل عا غياب الترابط بين البشر، ما عاد يعطي متل الأول، ما عاد يدفق بخيرو”.

اليوم موسم الزيتون بلا معنى وبلا نكهه، كل مين عندو أرض بروح عالموسم لحالو هوا وابنو أو بيحيب عامل سوري يفرطلو الزيتونات. يمكن أحسن ما يعطي اللي عم يساعدو قنينة زيت طازة، يمكن لإنو النسوان صارت قليلة خواص، يمكن لإنو الحب والترابط والألفة ما عادت موجودة بين الجيران ليساعدوا بعض… ويمكن لإنو الزيتون زعلان عا غياب الإيد اللي زرعتوا… ويمكن ويمكن ويمكن. إشيا كتيرة غابت عن هالدنيا. شو بتمنى ترجع إيامك يا ستي وبتمنى ترجع الإيام اللي كنتي تجمعي فيها كل أحفادك ببيت واحد وما يضل حدا من ولاد الجيران إلا ما يجي لعندك عا أول طبخة معكروم بكشك مع زيت طازة بعد كل موسم زيتون… كانت الألفة والمودة بين الجيران، كانت كل البيوت بيت واحد…الحي كلو كان عيلة واحدة.

يوماً ما سوف تعود الحياة الى البشر.

عن “برجا الجريدة” العدد الرابع تشرين الأول 2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى