قل كلمتك

ثورة بخفة دم

كتب د . محمد سلمان العبودي : على غير عادة ثورات العالم ، إتسمت ثورة شباب 25 يناير بخفة الدم . وهذا لم يمنع من أن يراق في الجانب الآخر الدم المصري الذي يبدو أنه حتى هذه اللحظة لن يذهب هدراً . والمعروف عن الشعب المصري أنه صاحب نكتة ، وخفة الدم وسرعة البديهة في اختلاق الموقف المضحك . كما أن مثل هذه النكت لا تتفجر عند المصريين إلا في حالات الكوارث والأزمات والفقر والتعاسة . ومما يروى من تلك النكت التي تعبر عن موقف وليس مجرد هراء ، ما قيل أن الرئيس السابق أنور السادات صبيحة استلامه زمام الحكم بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، طلب من سائق سيارة رئيس الجمهورية أن يأخذه في جولة بالسيارة في نفس الطريق الذي كان يسلكه عبد الناصر يومياً . وظل السائق يسير والسادات صامت . إلى أن وقفت السيارة عند مفترق طرق ، فسأل السائق الرئيس:  تحب تروح يمين ولا شمال يا ريس ؟ فسأل الرئيس السائق :  ” هو جمال كان بيختار إيه ؟ فرد السائق : « يسار» . فقال السادات : ” طب كويس ، خد يسار ، بس روح يمين “….

وهذا ما حصل بالفعل بعد استلام الرئيس السادات زمام الحكم في مصر . فقد تحول الاتجاه من دولة اشتراكية ( بالمعنى العربي للكلمة ) إلى دولة رأسمالية ( بالمعنى العربي أيضا للكلمة ) . وظل الشعب المصري ينظر إلى هذا (اليو تورن) المفاجئ دون أن يحرك ساكناً . حيث لا أحد يستشير أحداً في معظم الدول العربية . فالقرارات مضمونة الموافقة تسعة وتسعون وتسعة أعشار بالمائة .  فلماذا خسارة وقت وورق ؟

وبما أننا نتحدث عن السيارة ، فهناك نكتة تقول :

” إن أحمد عز والبرادعي راكبين عربية رايحين ميدان التحرير، فالبرادعي يقول لأحمد عز : أنا لو خطبت في الناس حيصفقوا لي نص مليون . فرد أحمد عز ، وأنا لو خطبت حيصفقوا لي اتنين مليون . فوقف السواق وقالهم وأنا لو دخلت بيكم الحيطة حيصفق لي 80 مليونا “.

وأخرى تقول بأنه أثناء أحداث 25 من يناير، كان هناك مصري يقود سيارته نحو ميدان التحرير، فأوقفته دورية الشرطة ، وسألوه :  ” ليه ما ربطتش الحزام ؟»  فقال : « أصلا أنا مش لابس بنطلون »!! ومن تلك النكت أن أحد المتظاهرين اعترض صارخاً : ” هو إحنا اللي بنعمل ثورة والمساجين هم اللي بيتحرروا؟ ” .

كما انتهز رسامو الكاريكاتير الثورة ليعبروا عما يدور في مخيلة الشوارع والساحات والميادين والجسور . فامتلأت الصحف ليست فقط العربية بل حتى الأجنبية حول أحداث مصر وتونس .

ولأول مرة في تاريخ شعوب العالم يخرج شباب الثورة يحملون يافطات فكاهية مضحكة لإسقاط نظام استمر ثلاثين عاما بالتمام والكمال . وكما هي عادة الأخوة المصريين ، فإن المزج بين الجد والهزل لا يفسد للود قضية .

المهم سواء ضحكنا أم بكينا ، فإن البركان قد انفجر . وليس من السهل التحكم في الحمم التي سيقذفها . ونحن نعلم بأن البركان هو أول من يكتوي بنار حممه .  لكن لا أحد يعلم إلى متى سيستمر في ثورته ولا إلى أي بعد ستصل تبعاته وحممه الملتهبة . والمنطقة كلها مؤهلة لتقبل الرماد الذي بدأ يتطاير في أجواء البلدان العربية القريبة والبعيد ة. وما وصلنا منه هو مجرد تحذيرات واكتشافات .

فقد اكتشف العالم العربي والإسلامي على حد سواء ، ولأول مرة منذ انحسار المد العثماني ، بأن الشعب العربي قادر على التحرك في الاتجاه الصحيح . فبعد أن قضى جيل بأكمله جل عمره بين الخوف والرهبة وعبادة النظام بالترهيب والتخويف إكتشف الجيل الجديد بأن قصص خيال أفلام المغامرات الأميركية يمكن أن تتحول إلى واقع . وأن الجرأة هي مفتاح النجاح . وأن الموت الذي يفرون منه قد يهاجمهم في عقر دارهم . فلماذا لا يموتون شرفاء وأحراراً؟ ومن هنا واجه المصريون الخوف الذي عايشوه لعقود طويلة بالمرح والمزاح والنكات المضحكة . إنه نوع من تحدي الخوف يشبه حالة الشخص الذي يصفر في الظلام .

إن الشعب المصري بتاريخه القديم قدم حضارة الفراعنة ، شعب طيب ومسالم ولا يميل إلى الشغب . وثورته هذه جاءت بعد أن طفح الكيل ولم يعد يحتمل أكثر مما احتمله. وهو يعلم كل العلم بأن مستقبله فيما لو رحل زعيمه سيكون مجهولاً.  ويعلم تماماً أن جيله وجيل من سيأتي بعده سيدفع ثمن القلاقل التي قد تنتج من هذا التحول غير المحسوبة حساباته . فهو ليس مجرد انتقال من نظام إلى نظام آخر ، بل هو انتقال من عصر إلى عصر بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

إنه عصر الكلمة السريعة والرموز التي لا يفهمها إلا أصحابها ، أصحاب البلاك بيري والفيس بوك والتوييتر . فكيف سيفهم جيل أو يحكم رجل ولد في عصر الملك فاروق جيلاً ولد في زمن بيل جيتس ومارك زوغربيرج ؟ هناك حلقات عديدة ضائعة بين الجيلين . وهي مسألة خطيرة في نظرية الحكم . يجب أن نفهم جيل الشباب لكي نستطيع أن نلبي مطالبهم . ومن المفارقات أن رجلاً مثقفاً محباً للكتب والمطالعة أراد أن يفاجأ ابنه بهدية ثمينة تقديراً لنجاحه في الثانوية العامة ، فاشترى له 22 مجلداً لإحدى الموسوعات العلمية تزن طنا ونصف الطن.  فما كان من ابنه إلا أن ابتسم لأبيه شاكراً له تعبه واهتمامه . غير أنه نصحه في المرة القادمة أن يشتري قرصاً صلباً لا يزن سوى جرامات عدة ولا يكلف سوى دراهم معدودة يحتوي على عشرات الموسوعات العلمية !!
وهذا هو المضحك اليوم في ميدان التحرير. هناك جيل دمه خفيف جداً ولا يجد من يفهم نكتته. ولا أحد يفهم لماذا يقف أكثر من مليون مصري منذ أكثر من عشرين يوماً وليلة في انتظار رحيل مصري واحد لا يفهم هو بدوره لماذا قرر كل هؤلاء وبشكل مفاجئ بأنهم ينتظرون بفارغ الصبر رحيله ؟ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى