برجا الآن

لمن ستغني البلابل في خروبتك يا حنوف ؟

توفيت حنوف أحمد الغوش ( الكجا ) أرملة محمد أحمد أبو مرعي دمج – أبو وليد – مساء الأحد 15 أيار 2011م وهي المولودة سنة 1924م . الشيخ جمال بشاشة رثاها في مناسبة ثالثها في قاعة الشيخ أحمد الزعرت في مسجد الشيخ محمد الديماسي ببرجا الشوف ، وهذا نص الكلمة : ” كانت امرأة تقم المسجد النبوي ، تكنسه وتميط عنه الأذى ، فتفقدها الرسول يوماً … سأل عنها ، فقيل له : ماتت ! فقال : أفلا كنتم آذنتموني ؟ أي أخبرتموني , كأنهم صغروا أمرها … مع أنها كانت تقوم بوظيفة مهمة من وظائف المسجد . أليست تهيئه للركع السجود ؟

فقال النبي : دلوني على قبرها ، فدلوه ، فجاء فصلى على قبرها . هذه المرأة أفضل عند الله من رجلٍ عظيم لا عمل له ، أو يتولى منصباً كبيراً يسييء فيه إلى الناس .

الناس ليست بمناصبها ولا بأموالها ولا بحسبها ونسبها . الناس بسيرها وأخلاقها ومناقبها .

مفهوم خاطىء وشائع في مجتمعنا : أن الناس البسطاء لا يؤبه لهم ولا يهتم بشؤونهم أحد ! أما أصحاب المناصب الضخمة فهم الذين بنظرهم يملؤون العين !

واسمعوا إلى ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كلُ ضعيف متواضع لو أقسم على الله لأبره .

والضعفاء لا نقصد بهم أولئك الذين يحيون على الملق والزلفى والتقرب من أصحاب الجاه والمال . بل نقصد أولئك الأعزاء في نفوسهم ، المتوكلين على ربهم ، البسطاء في معيشتهم .

بالأمس دفنا واحدة من اللائي سكنّ حارة العين شطر حياتها … في ضيعتي اليوم يموت أناس فلا يشعر أحدٌ بموتهم .

أحزنني موت أم وليد . الموت حق وكلنا وارده … الدنيا تغيّرت . هناك زمانٌ أوشك أن ينتهي برجاله ونسائه . صواحب المناديل البيضاء على رؤوسهن ، كلهنّ شددن الرحايل إلى الآخرة . لم يبقَ منهن إلا القليلات في حارة العين وحارات الضيعة .

بين بيتنا وبيتها كان الجل والصبيرة ، وبين بيتها وبيت الشيخ يونس الشمعة زقاق ضيق . موتها أيقظ الأشجان والذكريات . كانت بسيطة على بركات الله كما نقول .

عندما دخل التلفزيون بيتها كان جيرانها يقولون لها : لما لا تطفئين الجهاز يا أم وليد ؟ نريد التحدث إليكِ . فترد : وكيف أطرد من جاءني ضيفاً ، وهي تقصد مذيعة التلفزيون ، وتضيف بالعامية : ” يخرب زوقها ما بتشيل عينها من عيني ” . مرةً في الصيف وكان هناك مهرجان فلكلوري وحميت الدبكة على الشاشات ، فهرعت أم وليد مسرعة خائفة على تلفزيونها لتطفئه وهي تقول : ” هلأ من كتر الدبيك بيكسرولي تلفزيوني ” . ومرةً كانت ترغب بإقفال شاشتها فرأت فريقي قدم يلعبان مباراة صاخبة فتراجعت عن رغبتها قائلة : ” حرام خليهن يلعبوا ” .

ما من ولدٍ في حارة العين إلا وأعطته أم وليد ما يشتري به من الدكان على حسابها .

في السبعينيات من القرن الماضي ما من بيت حوالي أم وليد إلا وكان يأخذ من عند أم وليد الماء . كان بئرها خزان الحارة .

المقيقة ” وهي تصنع من الحليب والخروب الأخضر ” كلنا يتذكرها، خروبة أم وليد لم تكن تقطع بأحد .

عاشت رحمها الله ولم يرزقها بأولاد ، أولاد أقاربها والحارة كانوا أولادها . يوم موتها رأيت صغار السن يبكونها . سليم ابن خضر لمع جارها بكى بحرقة ، وهذا من أثر الوفاء في تربيته ، ومن أثر المعاملة الطيبة من أم وليد .

عزيزة النفس قضت عمرها . ليس غريباً عليها هذا الخُلُق ، فوالدها ” الكجا ” أحمد الغوش المتوفى عام 1969م يُروى أنّ واحداً من الناس مدّ يده إلى ثمار على الطريق في بلدة الجاهلية في الشوف فاتُهم هو بذلك ، وثارت ثائرته ولحِق باللذين ألصقوا به الفعلة . وكان حريصاً على سمعته ، عزيز النفس كريمها ، فكلما مرّ بساحة الجاهلية فرّ الناس من الميدان .

في آخر زمانها وقبل أشهر من رحيلها اشتد المرض عليها فحضنها أقاربها ، ولكن ما ينبغي إلا أن نذكر الوفاء بأهله ولأهله . جارتاها في حارة العين ، وفاء حسن حوحو زوجة خضر سليم لمع ، وبشيرة ابنة أخيها علي زوجة أحمد علي يحيى ، كانتا مثالاً للوفاء ، عنواناً للجار المخلص الحاني الراعي . ما تركاها في شيخوختها ، ولا تأففتا في خدمتها ، هما رهنُ إشارتها صباح مساء ، وهل هناك أيها الناس أرقى من الوفاء وأعظم من رعاية من يحتاج إليها ؟ لله ما أعظم صنيعهما وما أجلّ وفاءهما ! وددت لو أن كثيراً من النساء تحذو حذوهما … نعم الوفاء ما زال عامراً في بلدتي .

أثمن ما كان عندنا هم أولئك الأكابر الذين يقول عنهم النبي : البركة مع أكابركم . حقاً كانوا بركة في حياتنا . لا أدري لمن ستفيي الخروبة بعد رحيلها ؟ لمن ستغني البلابل حواليها ؟ .

نعم الدنيا تغيّرت . يبست الكروم ، واتسكرت الشبابيك ، وجفت خابية الزيت ” .

 

مقالات ذات صلة

‫20 تعليقات

  1. بل كل الوفاء في كلامك الرائع أيها الشيخ الأصيل الطيب الحبيب الأديب. ففي مقالتك المرثيّة للخالة العزيزة المرحومة ، قرأت أجمل ما قرأت . لقد جعلتني اشعر بأن أناساً كثيرين سيموتون هانئين بوجود ضميرك الحي وقلبك الكبير ومحبتك التي تعطي الأموات حقوقهم حتى كأنّي بالأحياء يحسدونهم على هذا الفوز بإهتمامك . فأنت نعمة لم يسبق أن أنعم الله بمثلها على بلدتنا الحبيبة . بارك الله فيك وجزاك كل خير .

  2. الله يرحمك أم وليد …. بالفعل لن ننساك دائما ستذكرنا فيك الخروبة والصبيرة

  3. الحقيقة كلامك الصادق يا شيخ جمال بيحفر بالقلب لانه طالع من وفاء قلب…..وبيزرع بالعيون دمعات الحنين للخالة أم وليد ولأمثالها ….وحكاويك عنها بترسم عالوج بسمات مسروقة من حسرة فراقها….
    تكلمت..فأتقنت…فأبدعت في الوصف والتعبير..يا حسرة ع…لى زمان البساطة والقلوب الشفافة…..اختفى بعجقة الحاضر بزيفه وبخبثة
    شو ضل من زمان وايامه غير شوية صور وذكريات وطرقات خبّت دعسات نسوان اخوات رجال…وخطوات رجال بكل معنى الكلمة…رجال, مصيرها تختفي وتنتسى مع طلة كل جيل جديد…
    الله يرحم الخالة ام وليد….ويرحم الماضي الجميل…ويرحمنا

  4. بارك الله فيك ياشيخ جمال
    الله يرحم ام وليد والفاتحة على روحها.

  5. اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الجمدلله رب العالمين(2) الرحمن الرحيم(3) مالك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5)إهدنا الصراط المستقيم(6) صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين(7) .آميييين
    اللهم نقها من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس وأدخلها الجنة برحمتك يا ارحم الراحمين يا الله.
    سنبقى كما نحن لن نتغير ,لن نعرف قيمة الشخص إلا بعد ان نفقده لماذا؟ لاننا نشعر ان البركة اختفت ….مركز الثقل في العائلة لم يعد موجود… الطيبة فقدت……..
    لمن ستغني البلابل؟ …………………بعد فترة لن يكون هناك بلابل ….. وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله واصحابه اجمعين .

  6. رحمة الله على روحك يا أم وليد
    وبارك الله فيك يا شيخنا الكريم على كلماتك المؤثرة
    وأدامك الله يا خالتي وفاء وأنشالله بيكون وقوفك حد إم وليد شفاعة الك يوم القيامة

  7. لقد اعجب فريق برجا اليوم بهذا المقال وخاصة انه يضع لنا امام اعيننا عينة من المجتمع البرجاوي بل وان ام وليدهي جزء من تاريخ برجا الذي نفتخر فيه رحمة الله على ام وليد

  8. لله ماطيب هذه الكلمات. أجدت يا شيخنا في وصف هؤلآء النسوة, الرعيل الأول من تاريخ برجا الذي جاهد وزاهد وعاش على البسط والعفة. لن تجد مثيلا لهذا الجيل. رحمها الله

  9. رحم الله الخالة ام وليد واسكنها فسيح جناته بارك الله بالشيخ جمال على رثائه للجارة

  10. نعم الدنيا تغيّرت . يبست الكروم ، واتسكرت الشبابيك ، وجفت خابية الزيت ” …
    هذا ما كتبه الشيخ جمال بشاشة في آخر كلمته التي رثى بها المرحومة حنوف الكجا… ما أود أن أقوله أن هذه الكلمة جعلتني أشعر وكأنني عشت في هذا الحي الذي حكيت عنه وكأنني عرفت حنوف وشربت من مائها واشتريت من الدكان على حسابها .. وأكثر ما أسعدني “نهفات حنوف” عن التلفزيون وبساطتها دون أن تتقصد البساطة فالبساطة هبة من الله يمنّ بها على عبادة الأخيار…………

  11. بفهم احساسك يا عبير مية بالمية….يوم اللي رحت عالعزى تأملت الطرقات القديمة وحيطان الحجر العتيقة وشميت ريحة الزواريب..بعدها متل ما هي ..بقيت بأصالتها ..لكن الوجوه اللي كانوا ..ماكانوا…اختفوا..ذكريات ايامي الماضية هونيك كانت قليلة..لكنها ثمينة…بتسوى سنين من ايام الحاضر اللي عم نعيشه الان..

  12. 3anjad ya che5 l ossa ktir 7elwe 3an l 7aje 7anouf.3anjad alil ma tle2e bi hal iyem nes hek bi ha
    tibe..bs yemken law ken 3enda wled ken 5talaf l wade3 ma3a la 7anouf?? momken ma jebet wled fa ha chi 3otaha 3atfe la wled l 7ay

  13. مقالة جد وفية…

    أم وليد تمثل اغلب نساء برجا، فهن مشهورات بالطيبة والتواضع والكرم وحب الجيران والأرض! الله يزيد من امثالهن.

    كم اتمنى ان يذكرني احد بعد موتي…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى