من جراب الأمس

البصّار الذكي

كتب الأستاذ مصطفى عبد السلام الزعرت : كان أهل القرية صغاراً وكباراً ، نساءً ورجالاً يعرفونه عندما يذكر اسمه .

إنه عدو الماء رقم واحد ، لذا كانت ألقابه كثيرة .

كان يعتبر نفسه ( مرجعاً ) في السياسة ، وكان يجادل عندما يكون الجدال ضرورياً ، وكان اللسان الناطق عن كل ( الوجهاء ) في البلده .

كيف كان يعيش ؟ وكيف كان يقضي أيامه ؟

كان يعيش أحمد حسين موسى معاد ( 1897 – 1980 ) , عيشة كفاف ، ولكنه كان يقرأ الجرائد علاوة على ما كان يحفظه من حِكم وأمثال سمعها من والده وأجداده .

كان شهرياً يذهب لمدة يومين أو ثلاثة إلى منطقة عكار ، حيث كانت هذه المنطقة إقطاعيات لأربع أو خمس عائلات ، أما باقي السكان فكانوا عمالاً زراعيين في أراضيهم أو رعاة لمواشيهم .

هناك كان يبيع أقمشته ، أما الثمن فكان مؤجلاً ريثما يطل الموسم .

أثناء تجواله في إحدى القرى ، دخل بيتاً متواضعاً من بيوتها ، وكانت تربطه بصاحب الدار صدافة ومودة ، فوجده حزيناً ، قليل الكلام ، واجماً … فسأله : ماذا أصابك ؟ أأنت مريض ؟ أو هل فقدت أحداً ؟

وكان هذا الرجل وكيلاً لأحد الإقطاعيين وقد ادخر مبلغاً من المال وخبّأه في مكان ظن أنه آمن ، ولكن … سُرق المبلغ .

أجاب الرجل : لست مريضاً يا أخي أحمد ، والعيال كلهم بخير ، ولكني فقدت مالي لأن أحد اللصوص سطا عليه كله .

قال ذلك وسكت .

وهنا جاء دور أحمد … فسأله : كم عاملاً يسكن في دارك ؟ فأجاب : أربعة ، فقال له أحمد : أتمنى عليك أن تستدعيهم جميعاً ، وإن شاء الله سيرجع مالك إليك .

دبّ الأمل في نفس الوكيل ، وسرعان ما أحضر العمال الأربعة وبدأت الجلسة … سأل أحمد العمال : هل تقطنون عند ( البيك ) ؟ فأجابوه : نعم …

هل تعلمون ما أصابه ؟ فأجابوه : نعم … هل أنتم مؤمنون ؟ فكان جوابهم نعم .

قال لهم بعد أن أحضر موقداً صغيراً ، ورمى فيه قليلاً من البخور وأخذ يتمتم ويستغيث بالله :

الآن أريدكم لأمر ، ومن يخالف ، فالله يتكفل به ولا يرحمه .

كان هؤلاء العمال أميين ولا يعرفون من مشاكل الدنيا شيئاً ، فقال لهم أحمد : أريد من كل واحد أن يقبض بجماع يده على تلك القصبة .

تقدم الأول وقبض على القصبة ، فقصها أحمد من طرفيها وبقي في قبضة الرجل قسم آخر ، فقام أحمد وقاسه بواسطة ( متره ) الخشبي فكان طوله 8 سم .

وكل واحد فعل كما فعل الأول ، فأصبح لكل واحد من هؤلاء الأربعة عود بقياس 8 سم ، وقال :

إذهبو بسلام إلى النوم ، وغداً صباحاً سنقيس كل عودٍ على حدة ، لأن السارق سيزداد عوده بمقدار 2 سم طولاً .

عمد السارق ليلاً إلى قص 2 سم من عوده ، لإعتقاده بأنه قضى على الزيادة التي ستحصل , وأتوا جميعاً في الصباح .

ثلاثة أعواد لم تقصر وبقيت على ما كانت عليه ، والعود الأخير نقص 2 سم .

فقال أحمد لصاحب هذا العود : أنت السارق . إذهب وأحضر المسروقات ، فإن لم تفعل فإنني سأخفيك في أعماق الأرض ونار الجحيم ستكون مآواك الأبدي .

إرتعش الرجل وأسرع مهرولاً حيث طمر المسروقات وأحضرها وهو يقول : لا تؤاخذني يا ( بيك ) الشيطان وسوس لي والطمع لعب برأسي ففعلت ما فعلت ، وأنت أيها الشيخ قل لي : هل ستؤذينني ؟ هل سيرضى الله عني ؟

فقال له أحمد : إذا قبل الله توبتك سيسامحك ، أما أنا فلن أقول شيئاً .

وجاء دور البيك ليقول للسارق : حمّل أغراضك واذهب من داري لأنني أمنتكم على أموالي ورزقي ، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين .

ثم قام وقبّل ( الشيخ ) أحمد ونقده خمس ليرات ، حيث عاد بها إلى بلده .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى