برجا الآن

إقليم الخرّوب : خيم في البرية ومنهاج سوري

سوريون
لا تصلح قطعة الأرض البرية في بلدة كترمايا لإقامة مخيم. لكنها القطعة المتوافرة لاستيعاب الأعداد الفائضة من النازحين السوريين إلى منطقة إقليم الخروب. ارض بعيدة من البلدة مسافة نحو كيلومترين، ينتهي الإسفلت قبل الوصول إليها، فيترتب السير على الأقدام.
يقيم في المخيم الذي تبرع به الشاب علي طافش من البلدة، أسر سورية لا تملك شيئاً. تعيش بين الأشجار البرية، قرب الأفاعي والعقارب، التي تسرح في الطقس الحار.
تجلس الأسر في ظل الأشجار نهاراً، لأن الحرارة ترتفع داخل الخيم، فتصبح لا تطاق. يجسدون في مشهدهم المأساوي لحظة التخلي عن البشر، ربما يراد لهم أن يكون مصيرهم أشبه بالحشرات.
تتجمع الأمهات حاملات أطفالاً مرضى، نتيجة التقاطهم الجراثيم، تقيؤ وارتفاع في الحرارة، رشح مستمر والتهاب في اللوز. الطفلة روشان من دمشق وهي في الثانية عشرة من عمرها تعاني من حالة إسهال وتقيؤ منذ عشرة أيام، وطفل آخر لديه رشح مستمر والتهاب في اللوز. وذلك أمر بديهي عندما تفتقد الحياة للمياه الصالحة للشرب، والطعام الصحي والنظافة. يروون أن جمعيات زارتهم ووعدتهم بإرسال أطباء، لكن لم يزرهم أي طبيب، وليس في مقدور الأهالي أخذ أطفالهم إلى العيادات لأنهم لا يملكون بدلات المعاينة، وباختصار إنهم أطفال متروكون للقدر أو وعناية الله.
تجلس فاطمة من معرة النعمان في ظل إحدى الأشجار، مع جارات لها في المخيم ومريم شقيقة زوجها، ولديها أربعة أطفال. تحمل طفلها ابن الخمسة شهور المصاب بثقب في القلب، لكي يتنشق الهواء، لأنه لا يستطيع تحمل الحر والبرد، فيصاب بالاختناق. تقول إنها كانت تعالج ابنها في سوريا، والآن لا تجد من يعالجه. استدلت إلى كترمايا من شقيق زوجها الذي سبقهم إلى هناك، لكنه يقيم في غرفة لا تتسع لسريرين، فانتقلت مع زوجها وطفليها إلى المخيم.
كان زوجها يعمل ناطورا لإحدى المزارع في إدلب، ويتقاضى مبلغ خمس عشرة ألف ليرة سورية شهرياً. صرف ما كان يدخره، وكذلك زوج شقيقته الذي كان يعمل بدوره ناطوراً في مزرعة أخرى. وتبين وجود طفل آخر في الثالثة من عمره يعاني أيضاً من ثقب في القلب.
في إحدى الخيم كان الطفل محمد فرحان غنيم من دمشق، ويبلغ عمره شهرين ونصف الشهر، يعاني من احتقان في الوجه، والتهاب في عضوه الذكري. يرضع من ثدي أمه التي تستعين على طعامه بمياه الأرز، لأنها لا تملك ثمن الحليب. يعاني الوالد من شلل أطفال في رجليه، لكنه يقوى على السير. كان يملك محلاً لبيع الأدوات المنزلية، يعتاش منه ولا يتطلب مجهوداً كبيراً، فاحترق المحل ودمر المنزل، وهو يقتات مع زوجته وطفله من المساعدات التي تقدمها بعض الجمعيات.
كان مشهد الرضيع يوحي بأنه لن يبقى على قيد الحياة، فتم تدبير إرساله إلى مستشفى سبلين الحكومي كحالة طارئة. عاينه مدير المستشفى الطبيب أحمد أبو حرفوش، وطلب له صورة صوتية وأدوية. لم يتقاض الطبيب بدل المعاينة، لكنه أوضح أن المستشفى لا يستطيع تحمل الأعباء المالية لطبابة النازحين السوريين ولا استشفائهم، «وعلى قطر والسعودية وإيران تحمل مسؤولية مساعدة النازحين لأن لبنان أصغر من أن يتحمل تلك المأساة». فجرى التبرع بكلفة علاج الرضيع، وترك الأطفال الباقون لمن يود المساعدة، في حال قرأ عن حالتهم.
علي طافش هو ناشط اجتماعي، أقام المخيم، واستطاع الحصول على مساعدات من بعض الجمعيات هي عبارة عن مواد غذائية، وبعض الأواني المنزلية وعينات غاز. يوضح علي أنه يوجد في الإقليم سبعة عشر ولداً مصابين بثقوب في القلب، لا يجدون من يعالجهم. ويقول إنه تم إطلاع ممثل المفوضية العليا للأمم المتحدة على الوضع الصحي للنازحين، فوعد بإرسال طبيب، لكن المساعدة لم تصل إلى اليوم.مخيم في سبلين

في سبلين، تحولت المنطقة الساحلية حيث تقيم الغالبية الفلسطينية، إلى مخيم ثان. فقد نزح إليها نحو خمسة آلاف فلسطيني من مخيم اليرموك في دمشق، واضطروا إلى الإقامة في شقق تضاعفت بدلات إيجارها، إذ يراوح بدل إيجار الشقة بين أربعمئة وستمئة دولار، بعدما كان يراوح بين مئة وخمسين ومئتين وخمسين دولاراً.
يقول المختار مصطفى حسن إن عدد سكان سبلين ألفا نسمة، ويقيم فيها خمسة عشر ألف فلسطيني أصلاً، وفد إليهم الفلسطينيون الجدد، مع عدد من الأسر السورية. يقوم المختار وحده بإجراء معاملاتهم، ويبدي أسفه لرفع بدلات الإيجار، قائلاً إن التاجر لا يعرف سوى جيبه، بينما لا يجد النازحون عملاً لهم، لأن المنطقة محتشدة بالعمال: هناك عدد قليل منهم يعمل في الحدادة والباطون والطلاء والأفران والملاحم ومحال الحلويات، والباقي ينتظر المساعدات.
نزحت أم أحمد من مخيم اليرموك مع أولادها الثلاثة وأسرهم إلى بيروت فلم يجدوا مكاناً لهم في مخيماتها، واضطروا الى الانتقال إلى سبلين، والإقامة في شقة بقيمة خمسمئة وخمسين دولاراً. حصلت الاسر الثلاث منذ نزوحها في كانون الثاني الماضي، على فرش اسفنج وحرامات «وكرتونتي» مواد غذائية، يتولى توزيعها مسؤول حركة حماس في المنطقة أبو حسن ظريف على النازحين. وحصل كل منها على مبلغ مئة ألف ليرة قدمتها جهات سعودية للنازحين في مسجد داود العلي، وثلاثين ألف ليرة تقدمها وكالة «الأونروا» لكل أسرة شهرياً، أي مئة وعشرون ألف ليرة للأسر الثلاث.
تقول الوالدة: كنا في المخيم نشتري مؤونة أسبوع من المواد الغذائية ومواد التنظيف بخمسمئة ليرة سورية. وحالياً يلزمنا ثلاثون ألف ليرة لبنانية يومياً لشراء الحاجات الرئيسة، فمن أين نحصل عليها؟
ويوضح ابنها حسن أن «الجيش السوري الحر» يقيم في المخيم، والجيش النظامي يحاصره، والفلسطينيون عالقون بين الجهتين. يروي أنه تحدث إلى أشخاص يعرفهم في المخيم، وأخبروه أنهم يريدون الخروج، لكنهم لا يستطيعون بسبب الاشتباكات المتواصلة بين الجهتين.
كان حسن يتقاضى من عمله قبل نزوحه خمسة عشر ألف ليرة سورية شهرياً، أي ما كان يعادل مئة وعشرة دولارات، يعيش منها مرتاحاً مع اسرته. وقد تحول الأبناء الثلاثة إلى عاطلين عن العمل.
ترد الوالدة: «لم نشعر بقيمة المخيم إلا عندما خرجنا منه. توقفت أعمال أولادي، وخربت بيوتنا، وكل ما ادخره أولادي منذ خمسة عشر عاماً صرفناه في لبنان». كان أحد أولادها يعمل في تركيب الأدوات الصحية، والثاني في التمديدات الكهربائية، والثالث يملك محلا لبيع الأدوات الصحية.
يجلس إبراهيم عبد الرحمن من ريف حماه على كرسي الانتظار المضني أمام إحدى الملاحم في سبلين. يقيم مع زوجته وأولاده السبعة وأسرة شقيقه، في شقة مستأجرة بستمئة دولار شهرياً، منذ سبعة أشهر. كان يعمل في حماة في الزراعة مع شقيقه، ويراوح دخل كل منهما بين ستة وسبعة آلاف ليرة سورية، تكفيهم مصاريف كل شهر بشهره. يقسم أنه استدان مبلغاً لكي يأتي مع أسرته إلى لبنان. عمل لدى مجيئه في البناء، لكنه توقف مع ازدياد عدد العمال. اخبروه أن يسجيل أسرته لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، لكن غالبية السوريين لا يعرفون مركزها، فدلوه أولاً إلى الغازية، ومن هناك طلبوا منه المجيء إلى بيروت. يؤكد أنه حصل وشقيقه منذ نزوحهما على كرتونة مواد غذائية، ويتحدى أياً كان أن يقول غير ذلك. وتقاضى كل من الشقيقين مبلغ مئة ألف ليرة من السعوديين.
يوجد في منطقة سبلين مبانٍ عدة يملكها سوريون، لكنهم رفعوا أيضاً أسعار الايجارات، ورفضوا تأجير النازحين السوريين. وأخضع عدد من أصحاب المباني شققهم للمنافسة: من يدفع أكثر يحصل على الشقة.
ينفي أحد الناشطين في سبلين، عماد عوض، أن يكون نشاطه بتوجيه من «الجماعة الإسلامية»، يملك مكتبة ويقول إنه يوزع مساعدات عينية يجمعها من المتبرعين، وهي عبارة عن ملابس وخبز وسكر وأرز وشاي. ويوضح أنه استأجر في بداية النزوح منازل لخمس وستين أسرة، ولكن عندما بدأت الأسر تتدفق، توقفت المساعدات الخاصة بالإيجارات.

«سكود»

في شحيم، تحولت مدرسة «سيلفر ستار» المقفلة إلى أبرز مركز لإيواء النازحين في البلدة. يمازح المسؤول عن المركز الشيخ أحمد حسن من حلب، شابا سوريا قائلا له: «عندما يسألونك كيف جئت إلى لبنان، أجب: بواسطة صاروخ سكود، أو قذيفة مدفعية، لأن ذلك هو فعلا ما أدى بك إلى هجرة ديارك».
يوضح حسن أن خمسا وثلاثين أسرة تقيم في غرف المدرسة، كل أسرة في غرفة، ولم يعد يوجد متسع لغيرهم.
تعيش الأسر على المساعدات التي يقدمها صندوق الزكاة في «دار الفتوى» و«ائتلاف الجمعيات الخيرية»، وتتضمن المساعدات بشكل رئيسي المياه والخبز والمواد الغذائية الرئيسة، وفي حال تبرع أحدهم باللحوم توزع عليهم.
وقد وضع الشيخ نظاماً خاصاً بالمركز، تتناوب فيه النساء على طهو الطعام في فرن الغاز، وتنظيف الملعب والأماكن المشتركة. ووضع جدول مناوبة بالأطباء في كل من مستوصفي شحيم ومزبود، لأنهما المركزان الوحيدان للطبابة.
ويؤكد حسن وجود نحو ثمانية آلاف نازح سوري في إقليم الخروب، ما عدا الفلسطينيين.
كانت منى حلو تطهو الملوخية على فرن الغاز مع القليل من لحم الدجاج. جاءت من زملكا في ريف دمشق، وكان زوجها يعمل في صناعة الأحذية، ويحصّل دخلا يبلغ ثلاثين ألف ليرة سورية، أي ما كان يعادل ستمئة دولار. دمر المنزل وسرق، لكن الحظ حالف أسرتها بعد نزوحها إلى لبنان، فوجد زوجها عملا في مطعم عند ساحل وادي الزينة، براتب خمسمئة ألف ليرة شهرياً، بينما يعمل ابنها لدى نجار براتب أربعمئة ألف ليرة. وقد أوضحت منى وهي تضحك أنها خطبت لابنها فتاة سورية في الخامسة عشرة من العمر تدعى سارة، وتلقت وعدا بإيجاد عمل أفضل له. تقيم سارة مع أسرتها في إحدى منازل شحيم، وكانت تزور أهل خطيبها، فأوضحت أنها تركت المدرسة بعد نزوحها. وخطبت ابنة منى لشاب من حماه، بعدما تعرفت إليه في لبنان، وهو مقيم في داريا ويعمل في جلي البلاط. كانت الابنة ممرضة، وتقول إن خطيبها سيستأجر لها منزلاً في المنطقة ويتزوجها.
يقول نازح آخر من بانياس لم يرغب بذكر اسمه إنه كان يعيش «خواجة» من عمله في دهان الموبيليا، ويصل راتبه إلى سبعمئة دولار شهريا. تحول إلى نازح عاطل عن العمل ويقيم في مدرسة، باستثناء أيام معدودة عمل فيها في حمل مواد البناء، وفوق ذلك حملت زوجته في لبنان.
سيدة أخرى من حمص حرق طفلها رأسه بعدما سكب عليه إبريق الشاي الساخن، لكنه يتماثل حالياً إلى الشفاء. لدى السيدة خمسة أطفال، وقد طلبت دواء لترميم جلدة رأس الطفل. كان زوجها يعمل خياطاً، ونفدت المدخرات، تقول: نحن نعيش من المساعدات.
كانت النسوة تطهو في بداية نقلهن إلى المدرسة في علب حليب النيدو. ويقول محمود من البرجين إنه جمع وبعض المعارف الأواني المنزلية من المنازل، من أجل تقديمها لهم، بينما قامت زوجته وهي خريجة مدرسة الأزهر بتدريب النسوة على كيفية التعامل مع بعضهن، تلافياً للمشاكل التي تحصل بين أشخاص من مشارب وأهواء مختلفة، بالإضافة إلى كيفية الحفاظ على النظافة. ويروي الشيخ حسن أن العديد من الرجال السوريين يأتون إلى المسجد من أجل الاستحمام.

تعليم المنهاج السوري

في مدرسة الإيمان في برجا، التابعة لـ«الجماعة الإسلامية»، يحظى ثلاثمئة وسبعون طفلاً بالتعليم ضمن منهاج التعليم السوري.
وتعتبر المدرسة التجربة الوحيدة في الإقليم في تعليم المنهاج السوري، يتوزع الأطفال على غرفها، من صف الروضة، حتى الصف السادس، ضمن دوام يومي نصفي، يمتد من الثانية والنصف حتى الخامسة بعد الظهر.
يأتي الأطفال من أماكن النزوح في بلدات شحيم، عانوت، داريا، وادي الزينة، الدبية، السعديات وبرجا. وفي صف الروضة الثانية، يبدأون بتعلم اسم دولتهم، والبلدة أو المدينة التي ينتمون إليها: حلب، حمص، حماه ، دير الزور، دمشق، داريا، زملكا، معرة النعمان… وتوضح إحدى معلمات الروضة أنه يتم تعليم الأطفال جنسيتهم وبلداتهم «كي لا ينسوها».
بدورها، تقول مديرة المدرسة إيمان شعبان إنه أمكن افتتاح أربعة عشر صفاً، بينما تم تسجيل ثلاثمئة وخمسين طفلا من أصل الثلاثمئة وسبعين في لوائح رسمية تسلمتها وزارة التربية اللبنانية. أما بقية الأطفال، فتم تنسيبهم لكي يستفيدوا من الدروس، من دون أن يتمكنوا من إجراء الامتحانات في نهاية العام الدراسي، لأنهم جاؤوا متأخرين على موعد تسجيل اللوائح.
وقد اتخذت «الجماعة الإسلامية» القرار بتعليمهم على نفقتها الكاملة، فأعلنت عن فتح المدرسة لهم، وتسجيلهم في كل من مركز «الجمعية الاجتماعية» في شحيم، وفي مركز إدارة المدرسة.
تضيف المديرة أنه تمت الاستعانة بأربعة عشر معلماً ومعلمة سوريين من النازحين، تدفع لهم أجورهم، ويدرسون التلامذة المواد التعليمية الأساسية، نظراً لقلة ساعات التدريس، وهي الرياضيات، العلوم، واللغتان العربية والانكليزية والدين. وستجري لهم الامتحانات في المدرسة بشكل طبيعي، بعد اتخاذ الإجراءات القانونية مع وزارة التربية.
وتقدر شعبان أنه لو فتح المجال للأهالي لوصل عدد المسجلين في المدرسة إلى ألف تلميذ. فيما تحتاج منطقة إقليم الخروب إلى أربع مدارس لاستيعاب أعداد التلامذة النازحين. لذلك،يوجد قسم منهم في المدارس الرسمية، والبقية في المنازل.

عن جريدة السفير اللبنانية عدد 8 أيار 2013 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى