برجا الآنمن جراب الأمس

الصّيف ضيْف وكيْف

برجا

كتب الشيخ جمال جميل بشاشة:

الأمثال الشعبية والعامية سِفر حافل لعادات الشعوب وأخلاق الأمم وسلوكياتها وتقاليدها، تفيض بالعبر والحكايا وكنوز القصص والتجارب.

التراث الشعبي البرجاوي مليء وعابق بأريج الفلكلور والأمثال، التي تعتبر من أصدق المراجع والمصادر لمعرفة حياتنا وأسلوب عيشنا والتأريخ لها.

كان نسوة بلدتنا يقلن: “المتل كان نبي” حيث تعتبر الأمثال الشعبية مرآة لطبيعة الناس ومعتقداتهم حيث تنعكس عليها عاداتهم وتقاليدهم، وهي تعتبر وسيلة لتعليم الدروس من الحياة بشكل حكيم ومرح في آن واحد، فالأمثال تحث على الفضيلة وتنبذ الرذيلة بأسلوب يميل إلى الجد حيناً والى السخرية حيناً آخر.

والمثل هو جملة أو عبارة قصيرة تتحدث عن تجربة معينة مر بها أشخاص في زمن معين. إذا فالأمثال هي خلاصة تجربة الشعب بمختلف طبقاته، فهي وليدة إبداع الشعب بأسره من خلال الخبرة والفترة التاريخية التي اضطرته إلى قول المثل.

وقد حظيت أشهر فصل الصيف بحضور كبير في الأمثال الشعبية، التي أبدعتها عقول الأجداد وتناقلتها ألسنة الأبناء والأحفاد، ففي الماضي لم يكن هناك مراكز رصد جوي ونشرات جوية فكانوا يعتمدون على معتقداتهم التراثية حول الأحوال الجوية الصيفية، فمربعانية الصيف تبدأ من يوم العاشر تموز وتنتهي في التاسع عشر من آب وهي أكثر أيام الحر حدة.

ولطالما كان لأشهر الصيف نكهة خاصة وطقوس عامة في جبل لبنان، حيث يتخفف الناس من الملابس وتكثر سهراتهم على سطوح المنازل ومساطب الدار ويتحلق القرويون في حلقات العتابا والميجانا، حيث يقول المثل: ” حصيرة الصيف واسعة” و “الصيف ضيف وكيْف”.

الصيف الذي له في ذواكرنا أطيب الأثر وأجمل الأوقات، نستقبله كل عام مع السيدة فيروز التي غنت له من كلمات الأخوين رحباني وألحان فيلمون وهبي: وكرومْكن ع كل مدّ تزيد، تغزل محبي وشهد وعناقيد، والعنب يُعصر عوافي وعمر، ويقطر السكر ليوم العيد… صيّف يا صيف ع جبهة حبيبي، لوّح يا سيف رجعتنا قريبي… من حي لحي عم توعى البشاير، و بلاد الفيّ فيها الفرح داير.

قالوا عن شهر حزيران: “شوب حزيران بيعمل اللبن عيران” و “شهر البسط والكيف أولو ربيع وآخرو صيف”. ولكن هذه السنة وهي حالة نادرة، ودعتنا السنة المطرية بسيول وأمطار غزيرة في العديد من المناطق اللبنانية فتساقطت كالحبال منذ فترة مابعد ظهر يوم الثلاثاء في الثاني عشر من حزيران 2018، فجرت “الحواميل” بقوة شديدة في كل أنحاء برجا، ومن مرّ بأدراج حارة العين ووادي عمرين يكاد يظن أنه على عتبات “فحل” الشتاء كانون.

الصيف في لبنان يبدأ مع شهر حزيران، وفيه يشتد الحر، ويزداد الطلب على المثلجات والمبردات، ويقولون فيه: “بْسَاطِ الصّيفْ وَاسِعْ” ويقصدون أن فصل الصيف يتيح للإنسان مجالًا واسعاً للحركة واستقبال الزائرين.

إذا انتقلنا إلى شهر تموز فسنجد في مواريثنا الشعبية اللبنانية أنه من أشد أشهر الصيف حراً، وفيه تهب  الرياح الحارة الشديدة والجافة، لذا قالوا فيه: “بـ تموز الميّا بتغلي بالكوز” لشدة الحرارة وارتفاعها، حيث تسخن في أباريق الفخار التي كان يستعملها أجدادنا.

وفي تموز تتخفّف العجائز من اللباس الثقيل حيث يشعرن بالدفء، وقد جرى ذلك مثلاً “بـ تموز بتدفى العجوز”.

كما يعدونه شهر العنب والتين حيث تبدأ ثمارهما بالنضح، وهو يعد “فحل” الصيف.

“آب اللهاب” هي العبارة الأشهر التي تطلق على الشهر الثامن من العام، وذلك لارتفاع حرارته الشديدة وقوتها، وهو شهر قطاف الثمار والفواكه على أنواعها، فيقولون: “بـ آب قطوف العنب ولا تهاب”.

ومنذ آلاف السنين تكتب الحكم عن فوائد العنب، ويتغنى الشعراء بجمال دالية العنب وفوائد قطوفها، وفي الأمثال الشعبية يضرب المثل في العنب أنه مصدر الفائدة والانتعاش في فصل الصيف الحار.

وهو شهر التين بلا منازع في ربوعنا، فقد كانت برجا إضافة إلى موسم الزيتون تعد موسم التين والعنب من مواسم الغلة والبركة. وقد شاع عندنا المثل القائل: “لما يطل العنب والتين وقفوا أكل العجين” و “طل العنب والتين بطلوا الطبيخ” وهذا يعني أن العنب والتين غذاءٌ مشبع يسد مسد الخبز وأنه غذاء كامل ووجبة غنية عن الطبيخ، وهما مع الرطب يعدان ملوك الفواكه.

وفي أواخر آب يبدأ الجو بالتقلب وتكثر الغيوم والسحب في السماء، فيقولون: “بـ آب بـ يتخلّق السحاب”.

آخر شهور الصيف في بلادنا هو أيلول، وفيه تلوح تباشير الخريف وتبدأ أوراق الشجر بالتساقط، وتلوح في أفقه علامات الشتاء فيقولون : “أيلول طَرْفو بالشتي مَبْلول” و ” بْأيْلولْ تموَّن لعْيالَكْ، وشِيل الْهَمّ عَنْ بالَكْ” و “إن هلّ أيلول بينزل الزيت بالزيتون”.

وأيلول هو الشهر الذى يعتبره اللبنانيون أنه “مصلحة الأرصاد الجوية”، وفيه يعتمدون طريقة البواحير لمعرفة حال الطقس في أشهر السنة كلها، والبواحير هي الأيام الـ12 التى تبدأ يوم 14 أيلول وتنتهي في 25 منه حسب البواحير الغربية، أو تبدأ في27 أيلول وتنتهي في 8 تشرين الأول حسب البواحير الشرقية، وهي بنظرهم معتقدهم أصدق من الأرصاد الجوية، فكل يوم من البواحير ينبئ عن طقس اليوم الذى يقابله من أشهر السنة.

والمبوحر يراقب عن كثب الرياح: هبوبها، برودتها، شدتها، اتجاهها، رطوبتها، والغيوم: لونها، علوها، كثافتها، وأبرز المناطق التى يراقبها المبوحرون هى سهل البقاع التى يراقب أهاليها حركة الغيوم التى تظهر فوق قمة جبل الشيخ، وفي منطقة المتن وكسروان الجبل والشاطئ يراقب المبوحرون الغيوم التى تظهر فوق جبل صنين.

ولشهور الصيف في القرية اللبنانية سجل حافل بالنشاط والمواسم والمهرجانات، فهو إن كان فصل الحصاد، فهو فصل الفرح في ربوعنا، ففيه تكثر الأفراح من خطوبة وزواج، ولا تكاد تخلو مدينة وبلدة وقرية من لبنان من مهرجان تراثي فلكلوري.

وقد كان لبرجا على مدى تاريخها محطات فرح وبهجة كل صيف، من حفلات ومسرحيات ومشاركات في وسائل الإعلام وخصوصاً في برامج الإذاعة والتلفزيون منذ انتشارهما في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين.

عن “برجا الجريدة” العدد الثالث تموز 2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى