برجا الآنوجوهٌ من بلدتي

الفنان التشكيلي نبيل سعد: صدق الإحساس ينتج العطاءات الفنيّة

لندن – جويس منصور: الفنان التشكيلي نبيل سعد، ابن بلدة برجا العريقة، برع في البحث داخل غياهيب ماضي برجا وبيروت لانتشال جزئيات وتحويلها الى مشهديات في فنً التشكيل، تعيد رونق الأزمنة الغابرة.وكان لنا مع الفنان هذا الحوار حول مسيرته الفنية، وانجازات الفنان التشكيلي نبيل سعد التي تستحق أن نقف عندها، ونتأمل، ونقدّر، ونتعلم…

الفنان التشكيلي نبيل سعد
  1. أنت ابن بلدة برجا حيث ترعرت وكانت بداياتك في مسيرة الفن التشكيلي، أي أثر كان لبرجا على ذاكرتك الفنية؟

لبرجا أثر كبير على حياتي وعلى ذاكرتي الفنية، لأن الأمور والمشاهد التي نراها منذ الطفولة هي التي تشكل ذاكرتنا. برجا هي الحب الأول، هي عطور الأزهار والأعشاب، هي الذكريات القديمة والأماكن الجميلة… برجا هي التفاعل الإجتماعي الكبير بين أبنائها.. برجا أعطتني كمّاً هائلأ من المشاهدات التي أغنت موهبتي ودفعتني الى العطاء الفنّي….

  • بدأ الشغف لديك في توثيق المعالم الأثرية والأماكن منذ معرض في برجا في العام 2001، كيف حصل ذلك؟

للمكان أثر كبير في النفس، وهو يبقى محفوراً لمدّة طويلة، فهو مهم لتثبيت ذاكرة الإنسان. وبرجا للأسف نتيجة لزلزال العام 1958 فقدت الكثير من معالمها، والأبنية الحالية قد بنيت بعد الزلزال عشوائياً، كحلٍّ سريع لأزمة السكن التي نشأت بعد الزلزال. فحاولت إعادة تشكيل الأماكن، وأقمت الأبحاث لأرسم بدقّة المعالم، نفّذت ذلك بصدق ولم يكن هدفي الترغيب بلوحاتي.

وأقمت المعرض الأول في 2001 وكان عنوانه “عيون شرقية”، وعرض مجدداً في الأونيسكو في 2003.

وما حدث أن أهالي برجا تفاعلوا بطريقة رائعة مع المعرض، واعتبروا لوحاتي ملكاً عاماً لأهالي برجا. وهي موضوعة بين يدي أهل البلدة ليستعملوها في أمور مختلفة، وقد استعملت وما زالت كغلاف كتب، أو صور في رزنامة محلية… أو على مواقع التواصل الإجتماعي…

تجميل أبنية برجا

كيف جمّل الفنان نبيل سعد بلدته برجا؟
  • ماذا عن دورك في تجميل الأبنية في برجا؟

هو مشروع في العام 2017. لكن قبل التنفيذ، أخذ الموضوع العديد من النقاشات حول الاحتمالات، واستشاروني فيما يمكن أن نفعل، كوني قد تعاطيت بعمق بالعمارة اللبنانية، وجزئياتها وما قد يناسبها… وكان علينا أن نواجه معضلة، فإمّا أن نهدم الأبنية التي شيّدت بعد زلزال 1958، أو أن نشتغل على تحسين شكلها الخارجي.

وقررنا أن نتبنى الاحتمال الثاني، إذ لا يمكن أن نجرح ذاكرة الأشخاص الذين كبروا في البيوت الحالية.

انطلاقاً من هنا، فكرت بأمر وهو التعامل فنّياً مع عشوائية الأبنية الإسمنتية بعشوائية فنيّة، وصرت أرسمها وألوّنها بتناغم الألوان، وكان هذا مشروعاً نموذجياً، ونفّذ بعدها على الأرض، وأبقينا على الأبنية ذاتها، وساحة العين، ومحونا أثر الإسمنت، وحوّلناها إلى واحة أبنية ملونة.

من برجا إلى بيروت

  • بعد برجا انتقل الشغف في توثيق المعالم إلى بيروت، وثمة من قال عنك: “بيروت أصبحت برجا منك تغاركيف تمّ هذا؟

حين قرر أهلي خلال الحرب الأهلية الانتقال للسكن في بيروت، تعرفت الى معلمها وأبهرتني رغم الدمار الذي خلفته الحرب، سحرتني مدينة بيروت بجمالها، وحفظت معالمها، وأحببتها. فهي مدنتي المحفورة في ذاكرتي.

وبعد معرض برجا رسمت العديد من المواضيع قبل الشروع برسم لوحات واقعية عن بيروت وعن عجقتها وهو ما يسمى بال City Art أو الفن المُدني.

بيت بكري

ثمّ قررت أن أرسم تراث بيروت، كما حصل معي بالنسبة لبرجا. وبيروت قد فقدت الكثير من معالمها القديمة، نتيجة الحرب الأهلية. فكان لا بدّ لي أن أسترجع هذه المعالم غير الموجودة. ونصحني حينها د. محمد شومان أن أقرأ كتاباً تحت عنوان “أِشياء لا تموت”، ثمً تعرفت على المؤرخ عبدالله فاخوري، الذي وضع كل معلوماته بين يديّ، ود. سهيل منيمنة رئيس جمعية تراث بيروت، والكثير من الأشخاص.. وكانت رحلة بحث طويلة في تاريخ بيروت منذ ما قبل العام 1840 الى تاريخ بداية الحرب اللبنانية.

واستجمعت تفاصيل اللوحات من خلال الوثائق والقراءات التاريخية، ولوحات المستشرقين. إلى أن وصلت الى حقبة الحرب الأهلية التي بدأت سنة 1975 فأوجعتني كثيراً هذه الحقبة، بعد أن كانت بيروت منارة الشرق دمرّت معالمها الجميلة. فرسمت لوحتين فقط عن هذه المرحلة، وفضّلت التوقف عن رسم مرحلى الحرب.

وأنهيت أول مجموعة، وعرضتها تحت إسم “بيروت على خط الأفق“. والنتيجة كان هدفي أن أرسم مجموعة عن بيروت وأنتقل إلى مجموعة أخرى، لكنني اكتشفت أن بيروت هي كنز لا ينضب من الأحاسيس والجمالية.. وأنا مستمرّ.

 لوحة انفجار بيروت

  • رسمت بيروت الجميلة عبر التاريخ، لماذا رسمت انفجار بيروت؟ كيف يمكن أن تصف لنا شعورك وانطباعاتك خلال العمل؟

كنت دائما في لوحاتي أحاول أن أظهر جمال بيروت. ولكن انفجار بيروت لا يمكن أن نغض النظر عنه، إنها كارثة ضجّ بها العالم. والإنفجار قد حصل في المنطقة التراثية المتبقية لنا من تراث بيروت التي فيها أجمل البيوت التي كنا بشتى الطرق نحاول أن نحافط عليها ونمنع هدمها…

اللوحة رسمتها وسميتها “لحظة من زمن”. وبكيت مع هذه اللوحة، لأنني شعرت بألم مدينتي، وألم أهلها وشهدائها… ولمّا شاعر صديق لي شاهد لوحتي أعطاها إسم “اغتيال الحبيبة” لأنه يعرف مكانة بيروت في قلبي، واهتمامي بها.

  • تأثرت بالمدرسة الإنطباعية في الرسم، ثمّ تحت رايتها شكلت خطاً خاصًا وصرت فنانا حامل قضية. الى أين تأخذك اللوحة الفنية؟ والى أين تأخذها أنت؟

أنا انطباعي بطبيعتي، وشغفي وعفويتي في الرسم، ونمطي هو نمط المدرسة الإنطباعية. رغم أني قد مشيت في مدارس أخرى أيضاً لأنّي أعلّم الرسم وعلي أن أتقن المدارس الفنيّة المختلفة، وأعلمها لتلاميذي..

ولكن المدرسة الإنطباعية تبقى الأقرب الى شخصيتي والتي يمكن أن أعبّر من خلالها أكثر.

اللوحة الفنية تحملني على بساط الريح وتنقلني الى زمان آخر، فأعيش في تلك الحقبات والأزمنة والأماكن، كما لو أنّي كنت حينها هناك. وبعد أن أنتهي آحمل اللوحة الى الناس، والكلمات التي يتركونها على السجل الذهبي، دليل أن احساسي يصل نفسه الى الناس.

مصادر الوحي والمادة التلوينية والتقنية

  • ما هي مصادر الوحي؟

هنالك مقولة لبيكاسو يقول فيها: “لا يوجد مخيلة بل يوجد ذاكرة”. ومصادر الوحي تأتي من كثرة وتنوع المشاهدات، ومن المخزون الثقافي لدى الفنان، وأنا غذيت كل ذلك باطلاعي على التقنيات العالمية. وحين يتعامل الفنان التشكيلي مع أعماله بصدق المشاعر، فمصادر الفن والوحي لا تنضب أبداً.

  • نوّعت في المواد فاستعملت الزيت والأكواريل والفحم…وغيرها. أي منهما يخدم أسلوبك وتقنيتك أكثر؟

عادة ما يشتهر الفنان بمادة معينة وأسلوب معين، واذا استعمل مادة مختلفة، ستبقى التقنية ذاتها. أمّا أنا فتمكنت من استعمال المواد المختلفة ونوعت التقنيات أيضاً.

في معرضي “بيروت على خط الأفق” رسمت ثلاث مجموعات بتقنيات مختلفة. فنوعية المادة تخدم التقنية والموضع المعالج.

  • تغلب الألوان الترابية على لوحاتك عن بيروت القديمة، أهي ألوان التراث؟

الألوان الترابية هي مجموعة لوحات معرضي بيروت على خط الأفق، بيروت ما قبل 1840، وهي تقنية كانت متبعة في ذلك الوقت من قبل الفنانين التشكليين المستشرقين الذين زاروا بيروت ورسموها في ذاك الوقت وأهمهم دايفج روبرتوس، فحاولت أن أجمع الزمن والتقنية في موضوع لوحتي.

الزراعة والحياكة والماء

ماذا عن فن الجداريات والفسيفساء الذي أنجزت في برجا؟

هي جدارية نفّذت في برجا في العام 2006، لجدار بطول 5 أمتار وعرض 20 متراً. كان موضوعه خاصاً بمعالم برجا وأسميناه “برجا عبر العصور”. وهي رمزية وتحمل رموزا هندسية مع أشكال البيت اللبناني، وركّزت فيها على مواضيع ثلاث أساسية عن برجا قديماً: الإنتاج الزراعي، والحياكة، جرار الماء.. فنفذتها خلال سنة، وهو فنّ عريق وأنا أحبّه، لكن يبقى الرسم هو الأساس بالنسبة لي.

أنشأت محترفاً لتعليم الرسم في برجا، من هم تلاميذك، وكيف هو الاقبال؟

كانت البداية تلبية لحاجة الناس الذين كانوا يقصدونني لمساعدتهم في الرسم، ومن بينهم طلّاب الجامعات الذين كان عليهم أن يخضعوا لمسابقات الدخول الى كليات الهندسة والفنون وغيرها…

وطلب مني الأهالي أن أفتح المحترف، ففتحته في العام 2010. وهذا المحترف قد أنتج حالة فنية في برجا، وصار هناك كم هائل من الفنانين، مما أغنى الحالة الثقافية الفنية في برجا. وبطبيعة الحال المحترف يتطلب مني الكثير من الطاقة، ولكن النتيجة تفرحني كثيراً وانسى تعبي، خاصة حين ينجح تلاميذي ويتميزون في المسابقات والمعارض.

للأسف نحن اليوم نواجه مشاكل من ناحية سعر المادة التلوينية، وبالنسبة للاشتراكات فأنا أحاول قدر الإمكان أن لا أشعر المشتركين بثقلها.

أقمت المعارض الفردية وشاركت بمعارض جماعية، وكان آخرها المعرض الإفتراضي الجماعي مع مجموعة من الفنانين اللبنانيين والعرب، عبر مواقع التواصل الإجتماعي لمناسبة عيد العمال العالمي. كيف كان الإقبال على المعرض؟

بشكل عام أميل للمعارض الفردية، لأنني أعمل على مجموعات فنيّة لا يمكنني تجزأتها. لكن من وقت لآخر لا بدّ من المشاركة في معارض جماعية. ومعرض عيد العمّال شاركت به تلبية لدعوة الصديقة الفنانة التشكيلية د. جومانا بومطر، بمناسبة عيد العمال، لأنني سبق أن رسمت لوحة “العتاّل”، في مجموعة بيروت، وهي تتناسب مع موضوع عيد العمّال العالمي. وطبعاً الهدف منه زراعة ولو بسمة صغيرة في قلوب الناس.

كلمة أخيرة، لمن تختار أن توجهها؟

أوجه كلمتي الأخيرة للفنانين عامة، وأقول إن العطاء الفنّي الصادق لا بدّ أن يصل، فعلينا أن نعمل على إتقان الأساليب وعلى إعطاء المزيد لفن التشكيل، كي نشكل تراكماً فنياً وثقافياً يدوم للأجيال بعدنا.

عن موقع أخبار لبنان والعالم

11 أيار 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى