أوراق برجاوية

بخور والكنز المرصود

كتب الأستاذ أحمد سليم عزام : كلما أرهقتني الحياة ، وثقلت على كاهلي متاعبها وأعباؤها ، ألجأ الى استحضار الذكريات وأستعيد ما كنت قد حفظته منها منذ أيام الصبا ، وما زال بعضه عالقاً في جدار الذاكرة ، وأنفذ بها الى أعماق الماضي البعيد ، حيث أعيش ساعات حلوة ، مع ذلك الماضي  ، فما أجملها من صور ، وما أحلاها  من ذكريات .

كانت متعتنا ونحن صغار ، الجلوس حول الموقد ، والاستماع الى الحكايات المسلية ، يحكيها لنا الوالدان في ليالي الشتاء الباردة .

لم يكن الموقد في ذلك الزمن ( وجاقاً ) حديدياً ، ولم يكن ( صوبيا ) على المازوت أو الغاز ، ولا هو مدفأة كهربائية ، وإنما هو ( كانون ) ترابي ، صنعته يد أمي من تراب ( النعصة ) ـ قرب منزل أم طاهر حمية ـ الأصفر اللزج ، المجبول من التبن ( والعور ) ، وقد استغرق صنعه عدة أيام .

في إحدى سهراتنا الشتوية ، طلبت من والدتي ـ فاطمة محيي الدين حمية 1892 ـ 1978 ـ أن تحكي لنا حكاية جديدة ، فابتسمت وقالت : سأحكي لكم حكاية حصلت معي ، يوم كنت صغيرة مثلكم . ففرحنا كثيراً ، واقتربنا منها ، ننتظر سماع هذه الحكاية بشوق ولهفة .

قالت رحمها الله : في يوم  من أيام الربيع ، اصطحبتني أختي الكبرى الى قاطع بعاصير ، لتأتي ( بالحشيش ) من هناك ، كانت السماء صافية ، والشمس تطلع من وراء التلال وترسل خيوطها الذهبية على الحقول والمروج ، وقد مدّ الربيع بساطه الأخضر ، وبلغ الزرع أشده ، وراح النسيم يداعب السنابل الخضراء ، فتتمايل غنجاً ودلالاً .

حملت كل واحدة منا منجلها القاطع ، وانطلقنا في تلك ( الحفافي والجلالي ) الممتدة في هاتيك البطاح المخضوضرة . وبعد ساعة من العمل ، أحسست بالتعب والعطش ، فملت الى سنديانة ظليلة ، لكي أستريح تحتها ، وكان عند جذعها صخرة ملساء ، تغري بالجلوس عليها .

ولكن ما كدت أضع رجلي على هذه الصخرة ، حتى شاهدت حية حمراء ، مرقطة بالسواد ، تلتف حول نفسها ولسانها يلمع تحت وهج الشمس ، فخيل إليّ أنها تسعي نحوي لتلدغني فتراجعت مذعورة وصرخت صرخة سمعتها أختي من بعيد ، فهرعت إليّ خائفة تقول : فاطمة ، فاطمة ، ما بك ؟ فقلت : الحية الحية ! أنظري هذه الحية على الصخرة ، فدنت أختي من الصخرة وتأملتها ، ولكنها لم تخف ولم تجزع ، بل مدّت يدها الى تلك الحية ، وراحت تداعب رأسها وعنقها ، ثم التفتت إليّ قائلة : أمِنْ هذه الصورة تخافين ؟ فكيف إذا كانت حية ؟

فتملكتني الدهشة وقلت باستغراب : ماذا تقصدين ؟

فقالت : هذه يا أختي ليست حيّة ، وإنما هي صورة حية محفورة في هذه الصخرة .

وكان والدي ـ سليم معطي عزام 1872 ـ 1950 ـ رحمه الله يصغى إليها باهتمام بالغ ، ولما فرغت من كلامها ، قال : ليتكِ حكيت لي هذه الحكاية من زمان ، إذاً لكنّا اليوم نلعب بالذهب كمل يلعب الأولاد بالخزف ، فهذه الحية التي رأيتها ، هي نفسها الحية التي قضى ( بخّور ) سنوات عديدة بالبحث عنها .

فعجبنا من كلامه وقلنا : فمن هو ( بخّور ) هذا ؟ ولماذا كان يبحث عن هذه الحية ؟ فأجاب : سوف أقص عليكم خبر هذا الرجل وخبر بحثه عن الحية .

وفيما نحن في دهشة وترقب ، تنحنح والدي وقال :

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، جاء الى برجا الشوف يهودي من سكان مدينة صيدا ، يقال له ( بخّور ) ، يعمل في صناعة الصباغ .

سكن ( بخور ) عند بوابة البزري ، وتعرف على كثيرين من سكان برجا ، هذه البلدة المضيافة التي يلقى الوافد إليها كل حفاوة وتكريم من قبل أبنائها الذين عرفوا بالكرم ولطف المعشر ، وحسن المعاملة للغريب ، حتى ولو كان يهودياً .

كان من عادة بخور ، كلما فرغ من العمل أن يتوجه الى منطقة ( وادي قصب ) ثم ينحدر في الوادي الفاصل بين برجا وبعاصير يذرع الأرض جيئة وذهاباً يتأمل الصخور على جنبات الوادي ويتفحصها وكأنه يبحث عن شيء ثمين كان قد أضاعه بين هذه الصخور … حتى إذا وصل الى الفتيحات ووادي الهوّة عاد واتجه صعوداً حتى يصل الى وادي قصب ، ثم يعود الى بوابة البزري خالي الوفاض وقد أنهكه التعب ، فحار الناس في أمره ، وباتوا في شكٍ منه مريب .

وظل الأمر سراً دفيناً في نفس بخور حتى قبيل مغادرته بأيام قليلة ، فقد سأله بعض معارفه عن سبب تجواله في تلك الحقول ، فقال لهم ان لديه معلومات تشير الى أن : ما بين برجا وبعاصير ، كنز ثمين .

وهذا الكنز عبارة عن ( خلقينة ) من الذهب مطمورة تحت صخرة ملساء ، مرصودة بصورة حية حمراء ، فقلنا : وهل رحل بخور عن برجا لأنه وجد الكنز المرصود ، أم أن هناك أسباباً أخرى أجبرته عن الرحيل ؟ فأجاب والدي : هذا ما سأخبركم به الآن .

تابع والدي قائلاً : كان بخور ينزل الى صيدا ، فيمضي نهار السبت ثم يعود الى برجا مساء الأحد ، كان يخرج من بوابة البزري ، ويمرّ ببوابة السباع  ، سالكاً الطريق القادومية من أول ( تحت المنزول ) مروراً ببيادر الرقراق ثم الجرينة والبطنة وصولاً الى طريق الساحل في الجية .

وأريد أن أضيف الى معلوماتكم يا أعزائي ، أن بوابة البزري وبوابة السباع هما بناءان أثريان يعود تاريخهما الى القرن الثامن عشر ، يتخللهما مداخل الى القرية القديمة ، حول جامع برجا الكبير . ولهذا ، سميت كل منهما بوابة .

فبوابة البزري الواقعة شرقي الجامع الكبير ، يفصله عنها زقاق ضيق ، يتصل بشارع الزقزوق وحارة العين ، كانت في الماضي دارا لآل البزري الذين نزحوا عن برجا وبقيت هذه الدار تحمل أسمهم .

وبوابة السباع ، تقع الى الجنوب من بوابة البزري والجامع الكبير ، وقد سميت بوابة السباع ، لأنه كان على مدخلها تمثالان لأسدين ( سبعين ) رابضين ينظر أحدهما الى الآخر ، وكانت هذه دار لآل عزام ، وكانت تمتد من مكان بعض بيوت آل شبو ونصر الدين حتى ناحية طريق الديماس اليوم وفي المكان الذي يشغله  محل سعيد عثمان الشمعة ، وكان بين عائلتي عزام والبزري وشائج قربى كما روى لنا كبار السن من عائلة قموع الذين يعتبرون أنفسهم فرعاً من آل البزري .

هناك روايات كثيرة سمعناها من المعمرين في البلدة ، ومنهم المرحوم مصباح عمر الخطيب أن أحد زعماء الاقطاع ، ويقال انه أحد الأمراء الكبار ، زار برجا ، ومرّ ببوابة السباع ، فسأل عن صاحبها وعن مكانته الاجتماعية ، فقيل له : انه رجل عادي ، لكنه ميسور ملاّك وقد بنى هذه الدار ، فقال : ان هذه السباع لا تكون إلاّ على أبواب الأمراء ، ويقال : انه عرض عليه ازالتها مقابل مبلغ من المال ، لكنه رفض ذلك العرض وبعد أن انتقلت ملكية الدار الى أولاده وأحفاده ، بيع قسم منها ، وبقي الآخر قائماً ومعروفاً حتى سنوات قليلة قريبة ، حيث بيعت ، ثم هدمت وبني مكانها بناء جديد بين بيت محمد سراج وبيت ممدوح شبو ( محل حلويات سعيد عثمان الشمعة ) .

نعود الى بخور والى أسباب رحيله عن برجا … قلنا انه كان يمر ببوابة السباع في ذهابه وايابه ، وكان كلما شاهد الأولاد يملأون الأزقة والحارات بضجيجهم وصراخهم ، ينهرهم ويتوعدهم ويعكّر عليهم صفوهم وفرحهم .

ومرَّ يوماً بهذه الدار ، وقد اجتمع صبيان الحي من عائلات شبو وعزام ونصر الدين والبزري ، وراحوا يتواثبون ويمرحون . فأخذ ينظر اليهم شزراً ويعنفهم وينتهرهم ، ولم يتورّع عن شتمهم ، فخاف الأولاد وتوقفوا عن اللعب .

وكان بين الأولاد صبي جريء ، نظر الى اليهودي وتفرس في وجهه ، فقرأ في قسماته أمارات الخبث واللؤم ، فجاشت في صدره مشاعر الكراهية لهذا الرجل الفظ ، وقال في نفسه : علينا أن ندافع عن أنفسنا ونقاوم هذا اليهودي حتى يضطر الى الخروج من ضيعتنا مذموماً مدحوراً .

وانحنى فجأة الى الأرض ، وبخفة ورشاقة التقط حجراً ، ورمى اليهودي به ثم التقط حجراً آخر ورماه به فأصابه في عينه إصابة آلمته وجعلته يشكو ويبكي من الألم ، وتشجع الأولاد الآخرون وراحوا يرشقونه بالحجارة وهو يبكي ويصرخ ، فجاء الجيران ، وسألوه عن السبب ، فقال لهم :

” في دار عزام ضربوني ، في دار عزام يا عيني ” فأحضروا له الماء ليغسل عينيه لكنه استمر في البكاء قائلاً : ” في دار عزام يا عيني ، شو نفع المي يا عيني ” . فاستاء هؤلاء من تصرف الأولاد ولاموهم على فعلهم ، ونعتوهم بالشيطنة وسوء التربية ، وبعد هذه الحادثة غادر بخوّر هذه البلدة وخرج منها خائفاً يترقب .

أما لو بقي هؤلاء الناس على قيد الحياة ، ورأوا المجازر التي ارتكبها اليهود في صبرا وشاتيلا ، وفي قانا وغيرها ، ولو شاهدوا ما يمارسه اليهود من التقتيل والتنكيل بالأبرياء ، وكيف يموت الطفل بين ذراعي والده رغم التوسّل والاستعطاف ، لو عاش اولئك الناس الى اليوم ورأوا الجرائم البشعة ترتكب بحق الانسانية ، لغيرَّوا رأيهم في هؤلاء الصبية ولعدّوهم أبطالاً مقاومين .

من هنا يمكننا القول ان أبناء  برجا الشوف على مرّ التاريخ يتميزون بشعور وطني وقومي عميق وهم يترجمون هذا الشعور الى مواقف رائعة ، تتجلى في تأييدهم لاخوانهم العرب وتضامنهم معهم ، ومشاركتهم في نضالهم ضد الاحتلال حتى يتحقق لهم النصر .

وان ظاهرة رشق اليهود بالحجارة ،بدأت في برجا ، منذ ما يزيد عن قرن وربع القرن ، وأثمرت خروج يهودي خبيث من بلدة طيبّة فهل تكون ثمرة الانتفاضة وثورة الحجارة خروج اليهود من فلسطين ، نتمنا ذلك على الله .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى