أوراق برجاوية

بين مطرقة الغربة وسندان الوطن

كتب أ. مصطفى سليم الخطيب : ” إبني الحبيب … يومَ كنا معاً، لانت لنا قسوة الحياة وصفا العيش، كنت كالفراشة بيننا تحومُ بطلّتك البهية فينشرح الصدر ويفرح البيت … فأين تلك الضحكات ؟ يرشّها ثغرك وتسقيها سعادة عينيك . أخذك السفر منا ، فأحرَق الشوق قلوبن ا، فنحاول إخماد ناره بصورتك المعلقة على الحائط ، نمسح عنها غبار الزمن ونقبّلها كل صباح ، وتتيه عيوننا الى البعيد بحثاً عنك . فكم نتمنا لو عدّت إلينا نعيش ما تبقى من حياتنا معاً ، ونسجّل في صفحات ما تبقّى من تاريخنا أجمل الذكريات ” .

هذا بعض ما جاء في رسالة بعثَ بها والد الى ابنه في الغربة يعبر له عن أشواقه إليه ، ويحثه على العودة الى ضيعته الحبيبة برجا .

عاد المهاجرالى ضيعته ،أحسّ أنه وجد نفسه من جديد في تلك القطعة التي أبصر عليها النور وتفتحت عيناه فيها على الحياة ، ونشأ تُظّللَهُ سماؤها الصافية ، وتَنَشّقَ هواءها النقي الطيب ، وشرب ماءها العذب الزلال ، وتغذى من خيراتها الوفيرة ، واطّوّف خاطره بمفاتن الجبل والوادي والبحر الساحرة .

وكم كان سعيداً بما رآه من إتساع في رقعة الإعمار وزيادة نسبة السكان وتنوع المحلات والمشاريع ، ولكنه لم يبد انزعاجه من شرّ أزمة سير خانقة في وسط الضيعة الحبيبة ، فكان يرشّ سلاماته يميناً ويساراً على من عرف وتذكّر، ويرد السلامات على الذين بادروه بالترحاب من نافذة السيارة حتى استقرت تحت شرفة المنزل بعد معاناة لإيجاد مكان لركنها.

وصل بيت أهله وسرعان ما حضر الغداء الذي يحتوي على أشهى المأكولات التي كان يفتقدها في المهجر. من ثم بدأ الأهل والأصدقاء يتوافدون لتهنئة بعودته سالماً ، وأخذوا يتبادلون أطراف الحديث على مائدة الطعام ، فسردوا القصص والحوادث، وكانت النكت ضيفاً مرحباً به معهم ، فضحكوا متحسرين على أحداث مضحكة سالفة فرحاً على أحداث مضحكة أيضًا كانت في الماضي القريب.

والآن حان وقت الاستراحة بعد معاناة ليل سفر طويل ، فأسلم جسده للسرير بتنهيدة عميقة يحاول استرجاع بعض ذكريات الماضي . وبما أن منزله يقع في وسط البلدة وجد صعوبة في أن ينام لأن الضوضاء تنبعث من كل مكان سواءً من المركبات الألية على مختلف أنواعها أو من الشباب الذين يقيمون سهراتهم في وسط الشارع وتحت شرفات المنازل . لكن تعب السفر تغلب على هذه الضجة وتمكن من النوم في ثبات عميق.

وإذ به يسمع صوت الله أكبر الله أكبر فيعي أنه في برجا ويختلج قلبه سروراً لأنه إفتقد إلى هذا الشعور في بلاد المهجر فينهض من سريره ويتجه نحو جامع برجا الكبير، وهو في طريقه إلى المسجد يتفاجأ بالقمامة المنتشرة في أرجاء الأزقة المؤدية إلى الجامع .

يصل إلى جامع برجا لكبير فيندهش بجماليته الزائدة عما كان في الماضي وذلك بسب أعمال الترميم والتوسيع والتجديد التي جرت أثناء وجوده في المهجر .

بعد إنتهاء صلاة الفجر وفي طريق العودة إلى المنزل يلتقي بعمال البلدية الذين يعملون على رفع النفايات وتنظيف الشوارع وعلى رأس هؤلاء واحد يستعين بعربة قديمة لجمع النفايات لكنها تثير الضجة ويتابع سيره بإتجاه منزله . وما إن يصل إلى المنزل حتى يسمع ألحاناً متكسرة وأغاني مركّبة يطربه بها أخر بقيادة الموسيقار عامل البلدية ، حتى بزوغ الشمس على أصوات السيارات التي تكون ذاهبة الى الوظائف والعمل ما يزعج النائمين في المنازل المجاورة .

وكان لابد من أن يقوم بجولة في أرجاء البلدة ليسلم على بعض أصدقائه ، وأثناء مروره تقوم بعض السيارات والفانات بالتسليم عليه وترشّ عطر مازوتها في الشارع ، ولن يرضى باص قوى الأمن الداخلي أن يعتب عليه ضيفنا الكريم ويعطّر الجو بدخانه الأسود ، الذي جعل الأصدقاء يتفرقون ويدخلون المحل المجاور حتى تمر هذه السحابة من السموم وترتفع في الأعلى إلى البيوت عبر شرفات المنازل، ولسان حالهِ يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقولها بصوت هادئ .

يكمل جولته في الأحياء فيشاهد ما إفتقده في بلاد الإغتراب من مودة وإلفة بين الجيران فالجميع يرحب به بأجمل العبارات ويدعونه لتناول الطعام معهم ، وكذلك يرى أن هذه الأحياء ما زالت على عشوائيتها تفتقد في بعض الأحيان إلى النظافة وتمتلئ طرقاتها بالمياه المبتذلة أحياناً أخرى.

وسرعان ما تمضي إجازته ويرى أنه حتى الحياة هنا أصبحت صعبة ولها متطلبات كثيرة ، وكذلك لاحظ ضعف الخدمات التي تقدمها الدولة من (ماء وكهرباء وفرص عمل) وأدرك في قرارة نفسه أنه لا يمكن أن يحقق الأحلام التي هاجر لأجلها هنا …  وقرر العودة إلى بلاد المهجر وكله شوق وحنين إلى أهله وأصدقائه والروابط العائليه ولسان حاله يردد : حياتنا محصورة بين مطرقة الغربة وسندان الوطن .

مقالات ذات صلة

‫11 تعليقات

  1. اريد ان اتوجه بالشكر الى صديقي وأخي الدكتور ربيع كمال دمج لمساعته لي في كتابة هذا المقال، وأشكر أدارة موقع جامع برجا الكبير التي تتيح لأبناء برجا التواصل من خلال موقعها..

  2. لا يسعني إلا أن أتوجه بتحية خاصة للأستاذ مصطفى سليم الخطيب مع التمنيات له بالتوفيق وإستمراره بهذا النشاط الذي لا بد أن يؤثر إيجابياً في مجتمعتنا ولو بعد حين

  3. مقالة رائعة معبرة ببساطتها و بنقلها المختصر لمعاناة واحدة تجمع أغلب المغتربين من جهة والمقيمين في برجا من جهة اخرى…بالتوفيق مصطفى

  4. كلام وجداني برئء متامل يستحق التنويه به وشكر لكاتبه المرهف والمحب لبلدته ندعو الله عز وجل ان تكون العودة الثانية للمهاجر وكل مارآه من شوائب تكون على اكمل وجه .

  5. السلام عليكم
    وأنا بدوري لا يسعني إلا أن أتوجه بتحية محبة وتقدير للأستاذ مصطفى سليم الخطيب متمنياً عليه الإستمرار بنشاطته في شتى الميادين التي لابد لها من التأثير إيجابياً في مجتمعتنا.

  6. أريد أن أفتح عيني يوم ما وأرى أن برجا فيها نوع من التغيير أين التغيير الذي يعيدونا به ولا يوفون العهود نعم لأبناء برجا الطموحين الذين يخافون على بلدتهم حيث عشنا وكبرنا بها والشكر للجميع على جهودهم الواعية نحن نساند من يخاف على مصلحة برجا هيا إلى التغيير هيا إلى العمل الجماعي برجا أولاً.

  7. كلام جميل من انسان واعد اهنئك على بساطة الفكرة و بلاغة الكلام و نتمى ان يعي اهالي برجا لما يواجهون من مشاكل ……..
    بالتوفيق استاذي المحترم طالبك النجيب سمير

  8. شكرا” للجميع… وشكرا” لك أخي سمير فكلنا اساتذة وتلاميذ.. فأنا لا أكتب حتى أنال التنويه على كتاباتي ، ولكنها حسرة في القلب على بلدتي الحبيبة.

  9. مقالة جميلة ومعبرة ولكن لا حياة لمن تنادي والجميع يعد ولا يفي في الوعد , يباشرون حملاتهم في الوعود والعهود وفي الاقوال ويهربون من الافعال وهكذا تعودنا, لذلك ما ضاع حق وراءه مطالب يا استاذ مصطفى ,نتمنى لك التوفيق .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى