أوراق برجاويةبرجا الآن

من مفارقات العقل البرجاوي : البساطة المركّبة


 

كتب د.حسن منصور الحاج : قبل الدخول في قلب الإشكالية المطروحة في العنوان، أود الإشارة إلى بعض الملاحظات المنهجية التي من شأنها تسهيل عملية التواصل مع القارئ من خلال رسم معالم ومنطلقات وآفاق هذه الإشكالية.

في الواقع، من المفترض أننا نعمل في سياق مشروع إحياء وتوثيق وعرض التراث البرجاوي، وبما أني أنظر إلى التراث على أنه فعل أصالة متعدد الأبعاد الزمانية والمكانية، أي أنه ليس مجرد وثائق وأحداث بل هو فعل ثقافي متجدد ومتأصّل حيث تتلازم فيه وتتفاعل نشاطات الناس الواقعية والفكرية في إطار صيرورة الإنسان الثقافية، من هنا فإن المساهمة في عملية وعي المجتمع لذاته وهو في لحظة من لحظات مسار إنتاجه لذاته، تعتبر مساهمة فعالة في صناعة التراث الواعي والمنتج لذاته وبذاته. سابقا كنت قد تحدثت عن “عقل برجاوي” يظهر من خلال نسق من العلاقات والظاهرات التي تحكم الممارسة والسلوك في جميع مناحي الحياة البرجاوية كما كنت قد أشرت إلى مفارقات تميز هذا العقل. من إحدى هذه المفارقات تأخذ إشكالية هذا المقال طريقها إلى التحليل والتفكيك والفهم والتجاوز والاستيعاب. إنها إشكالية البساطة البرجاوية: أهي سذاجة أم تواضع؟ هل هي بساطة البدائي الفارغة أم أنها البساطة المركّبة التي هضمت وتمثلت تاريخها الغني فاستوى مسارها بعد أن تجاوزت عقباتها واغتنت بتجربتها فتجوهرت واكتسبت بساطة الجواهر؟

إن مقتضيات المنهج تفرض علينا إيضاح ما نقصد هنا بمفهوميّ البسيط والمركّب قبل أن نرى تجلياتهما في “العقل البرجاوي”. في الواقع، إن مفهوم البسيط قد يؤخذ من جهتين، فنقول من جهة، أن البسيط هو العفوي، المباشر، الظاهر، الصريح، الواضح، البدائي…. ومن جهة أخرى، نقول أن البسيط هو الجوهر الذي لا يقبل التجزئة، هو الكل المجرد، هو الفكر العائد إلى ذاته وقد تمثّل الكينونة واستوعبها في بساطته الجوهرية. أما هامش الحركة بين الجهتين فيتسع ويضيق تبعاً لصيرورة حركة الانتقال من الجهة الأولى إلى الثانية لدى الجماعات البشرية. أما مفهوم المركّب فهو أيضاً يؤخذ من جهتين، فهو، من جهة، ما تراكم وما اصطفّ فوق بعضه البعض من تجارب وصولاً إلى مرحلة التعقيد والغموض والفوضى، وهو، من جهة ثانية، قد يكون توليفاً لنشاطات ولتجارب المجتمع المختلفة والمتناقضة أحياناً فيعطيها معنىً ومكانةً في التاريخ. وهنا أيضاً نرى أن هامش الحركة بين الجهتين يتوقف على مستوى ومدى وعي الفكر لذاته ولجوهريته لدى الجماعات البشرية.

ولكن ما العلاقة بين البسيط والمركّب؟ إنها علاقة جدلية بامتياز، أي أن البسيط والمركّب في تناقضهما يؤديان إلى توليف جديد يختم مرحلة من مراحل الصيرورة التاريخية. فالإنسان البسيط بالمعنى الأول للبساطة يجد نفسه ضائعاً في بحر من التجارب والتعقيدات فيجد نفسه مركباً بالمعنى الأول للتركيب، وعند هذا الحد، ومن خلال الصدام بين البسيط والمركب يخرج الإنسان واعياً لبساطته ومستوعباً لتجربته التركيبية فيغدو ذلك البسيط الغني بذاته، المتجلي في تجاربه؛ فهو يكون بسيطاً بقدر ما يكون متجاوِزاً للعوائق، وإن أقصى درجات البساطة تكون في تجاوز واستيعاب أقصى حالات التركيب. تلك هي جوهرية البسيط. إنه البسيط المركّب.

بعد هذا التحديد المنهجي، لنرَ الآن أين تكمن جدلية تجليات البسيط والمركّب في “العقل البرجاوي”، مع الإشارة إلى أن الفصل هنا بين البسيط والمركّب ليس سوى فصلاً منطقياً إذ لا يمكن الفصل بينهما على صعيد الواقع التاريخي. ومن أهم تجليات البساطة التي تظهر في السلوك البرجاوي وإن بأشكال متفاوتة في التعبير، يمكننا ذكر ما يلي:

– الشعور بالضيعوية أي ببساطة ابن الضيعة حيث أن هذا الشعور ما زال قوياً فينا رغم تزايد عدد السكان في البلدة وتوسعها عمرانياً؛ وهذا الشعور قد يعود إلى تأخر إرساء العلاقات المدينية المرتبطة بدورها بالبنى التحتية والمراكز الاقتصادية.

– العفوية كظاهرة قوية في المجتمع البرجاوي.

– الطيبة والتصديق، حيث أن البرجاوي الطيب القلب لا يعرف الحقد وهو متسامح بالإضافة إلى كونه سريع التصديق قياساً لطيبة قلبه مفترضاً الطيبة عند الآخرين.

– الاستعراضية عند البرجاوي ناتجة عن حبه للآخرين بحيث يريد أن يتشارك في فرحته بنفسه مع كل من يحيط به.

– الروح الساخرة والمرحة تعكس تعامل البرجاوي ببساطة حتى مع الأمور الصعبة.

– الميل إلى المختلف وحب الغريب يظهر من خلال الاندفاع التلقائي نحو كل ما هو مختلف قادم من خارج البلدة.

– بساطة الإيمان الديني وعفويته وتسامحه، وهذا يظهر في نبذ التعصب وفي التعامل مع هذا الموضوع دون اصطناعية.

– أخيراً وليس آخراً، التواضع، وهو رمز البساطة البرجاوية، هذه الصفة التي لازمت البرجاوي عبر مسار عريق في البحث عن المعرفة ونقد الذات.

أما تجليات التركيب في “العقل البرجاوي” فقد ظهرت في مجمل نشاط الإنسان البرجاوي عبر تجاربه الغنية التي يمكن أن نذكر منها تجربته في صناعة الحرير وما نتج عنها من تفاعل بين برجا والعالم الخارجي، حيث من هذه التجربة انطلقت تجربة التجارة الجوالة حيث انتشر أبناء برجا منذ بداية القرن العشرين يحملون بضاعتهم لبيعها في أرجاء لبنان وسوريا وفلسطين والأردن وغيرها من البلدان. ولا شك في أن هذه التجربة شكّلت محطة أساسية في تركيب “العقل البرجاوي”. ونتيجة لتفاعل البرجاوي مع محيطه ومع ما يحدث في العالم فقد انخرط في العمل السياسي وتفاعل مع التجارب القومية العربية والإسلامية كما تفاعل مع الأممية الشيوعية، حيث كانت برجا وما تزال مسرحاً لتفاعل ولحوار ولصراع التجارب الفكرية والسياسية المختلفة. ولا شك في أن التجربة السياسية قد تلازمت مع تجربة رائدة في العمل الاجتماعي والثقافي حيث كان انخراط الشباب البرجاوي في الشأن العام وما يزال دلالة على تحوّل كبير في تكوين “العقل البرجاوي المعاصر”. ولا يجب أن ننسى تجربة الانخراط في الوظيفة العامة التي شكّلت بالنسبة للعقل البرجاوي محطة أساسية في مسار تفاعله مع المجتمع اللبناني عبر مؤسسة الدولة التي هي تعبير عن الإطار الكلي للمجتمع.

أما الآن وقد استعرضنا بطريقة شبه تخطيطية واصطناعية تجليات البسيط والمركّب في “العقل البرجاوي” فلا بد لنا من العودة إلى ربط هذه التجليات من خلال علاقاتها الجدلية على أرض الواقع التاريخي. في الواقع، حين نتحدث عن البساطة البرجاوية بما تعنيه من طيبة وتواضع، فإننا نتحدث عن البساطة الجوهرية التي تجاوزت سذاجتها واغتنت بالتجربة وعانت ما عانته في مسيرة التركيب حتى تجوهرت ببساطة الفكر الواعي لذاته كتمثل لحركة الكون في التاريخ. إذن، البساطة البرجاوية هي التراث البرجاوي، إنها التواضع الساخر الناقد الواعي لشرطيْه الذاتي والموضوعي.

في الختام، نقول أن البساطة المركّبة هي تجسيد لجدلية الفعل التراثي لأي شعب من الشعوب. ونعتقد بأن البساطة بقدر ما تكون شفافة ومتحررة بقدر ما تكون صفة لمجتمع غني بالتجربة ومتجاوِز لها. إذن، البساطة بهذا المعنى هي علامة رقي ومدعاة فرح وحبور. ولا شك في أننا أردنا في هذا المقال تبيان انتماء “العقل البرجاوي” إلى عالم البساطة المركّبة، أي إلى عالم الفكر المتجاوِز لمباشريّته والواعي ذاته كجوهر مطلق. وأخيراً، أود أن أختم بذكرى وتساؤل. فالذكرى تعود إلى أول زيارة أقوم بها إلى أوروبا وإلى ألمانيا بالتحديد، حيث فوجئت وانبهرت بالبساطة التي تطبع سلوك الناس هناك فقلت في نفسي أنه لا بد من أن هذه البساطة تحجب خلفها تاريخاً عريقاً من التجارب الغنية وهي تأتي كثمرة سلسة لهذا التاريخ. أما التساؤل فهو يتلخص بالتالي: ألا يحق لنا التحرر من تعقيداتنا وتجاوزها إلى آفاق تجعل من حياتنا أبسط بقدر ما تكون أعمق وأشمل وأكثر تواضعاً ؟ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى