وجوهٌ من بلدتي

فاروق سعد … كل العلوم كانت بحره وسماءه

كتب أحمد بزون : لم أصدق أن جبل الحياة سقط دفعة واحدة ، وأن تلك القامة الطويلة انغرست في التراب ، وأن تلك البسمة العريضة امتصها جفاف الموت في لحظة سهو . الكاتب والفنان فاروق سعد عبر السواد عينيه أمس ، ولم يكن يوماً ما عابراً في هذه الحياة بلا راية ، لم يكن عابر معرفة أو تخصص أو علم ، حتى إنه لم يعرف معنى للاستقرار في واحد منها.
كل العلوم كانت بحره وسماءه ، هو الموسوعي الذي لم يصرف وقتاً طويلاً في انتظار الأضواء ، ولم تأخذه الشهرة إلى تجاذباتها . بقي يحفر عميقاً في الظل ، يضرب في كل علم ، لم تشبع الفنون التشكيلية نهمه إلى المعرفة ، الفنون التي بدأ بها مشواره وطاف من أجلها العواصم ، ورسم عدداً كبيراً من اللوحات ، ثم جمع أعمالاً لبيكاسو ودالي وديغا وسواهم، حتى بات بيته متحفاً مصغراً .

وهو إن أتقن الرسم الكلاسيكي جيداً ، وخاض ضروب الحداثة ، لم يجد في الفنون ضالته ، فارتحل إلى القانون حتى وصل سقف التخصص ، وهو ابن القاضي عبد العزيز سعد . لم يكن محاميأ منحازاً لأهواء السياسة ، حسبه أنه كان مخلصاً للإنسان والحق والعدالة . ولم يستقر في شؤون المحاماة وعالم المحاكم ، فزاوج معها الأدب ، فكان التراث وجهته الأساسية ، وخيال الظل مادة أطروحته في الدكتوراه.
كان فاروق سعد يسابق الوقت منذ تفتحه على الحياة في بيئة ثقافية غنية ، فأول ما ولد فيه الصحافي المندفع في كل اتجاه . ابن السادسة عشرة كتب في مجلتي «المجالس» و«الخواطر» أولى مقالاته ، لكنه سرعان ما اندفع نحو التأليف الذي بدأه أيضاً في سن الشباب بمجلدين بعنوان «من وحي ألف ليلة وليلة» ، وقد بلغ حصاده 52 كتاباً في الأدب والفن والقانون والفكر  والسينما والمسرح.

وعندما قابلناه منذ أسبوعين (« السفير الثقافي » الجمعة 8 تشرين الاول الحالي) كان يحدثنا عن مشاريع كثيرة في جعبته . لم يفاخر أو يتشاوف كونه صاحب رف طويل في واجهات المكتبات ، أو يحتج على الإعلام المقصر بحقه ، أو يندم على مكوثه في الظل كل هذا العمر . كان يبتسم لكل شيء ، حتى للمرض الذي يبعده عن مكتبه.
رحل فاروق سعد ، ابن برجا ، عن 72 عاماً . رحل كموجة سبقت النوارس ، فطلابه كانوا ينتظرونه ، وأصدقاؤه في الجامعات والكليات في اللبنانية واليسوعية والروح القدس ، التي أضاء فيها قناديله ، لم يتسنَّ لعدد منهم بعد أن يعلموا بمرضه قبل رحيله . هو موت ثقيل على الجميع ، وعلى رجل كان ينتقل برشاقة بين علم وآخر، يقطع المسافة من « ألف ليلة وليلة » إلى شارلي شابلن ، ومن فن الرسم بالقطع العربي إلى سلفادور دالي ، ومن مالك بن أنس والفـريابي إلى قانـون الفضاء الكوني والمحــاكمات من بعد.
لم يكن مجرد كاتب أو باحث يملأ وقته ، كان صاحب هوى في الكتابة ، حراً إلى حد اختيار الإبحار في النقائض لتوسيع الأفق والمعرفة . لم يقتصر على الشرق ، فاندفع إلى الغرب ، منغمساً في الأدب المقارن ، والفن المقارن ، والقانون المقارن.  كان جباراً على نفسه ، يكسر رأسه من أجل تحقيق معلومة ، أو فكرة ، وينبش مكتبة من أجل الوصول إلى كلمة . علنا نحفظ ما كتب . نقلاً عن جريدة السفير 2010/10/21 .

وكتب الأستاذ نجيب البعيني : اذكروا معي هذا التاريخ . سطّروا الإسم بأحرف ذهب ونور . الدكتور محمد فاروق سعد كان رجلاً فعالاً تبوّأ مركزاً يليق به ، محامياً لامعاً وكاتباً ومؤرخاً موسوعياً ومدققاً باحثاً ، إلى كونه الناقد الملتزم الذي لا يعلوه غبار .
غادرنا عن هذه الدنيا الفانية في أسرع ما نتصور ، فترك في نفوسنا أثراً لا يمحى .
وإلى صولاته وجولاته في الفكر والمبادئ كان سيد الدعابة والقفشات ، ديناميكياً واثق الخطوة لا يهدأ لا في الليل ولا في النهار ، دائم الإنشغال في التحبير والكتابة والمحاماة والأدب والشعر والمنتديات الثقافية والجمعيات الأهلية وقضايا الناس ، يحل مشاكلهم ويفض نزاعاتهم ويتفهم معاناتهم وهمومهم بالتي هي أحسن ، وعلى طريقة ” أحبوا بعضكم بعضاً أيها القوم ولا تختلفوا ولا تتنازعوا لأن الدنيا فانية لا تدوم لأحد ” .
رحلت أيها الرجل العظيم ، أيها الإنساني النبيل على عجل تاركاً لنا العمل الجيد والصيت الحسن والأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة والمزايا الفاضلة .
كنت أتردد إليه في مكتبه في الحمراء بين حين وآخر ، فنتبادل الأحاديث الأدبية والإجتماعية والإنسانية . وكان فكها ، مرحاً بإطلالة بهية بشوشة ، يسحرك بأحاديثه وقصصه وحكاياه عن الناس والمجتمع والأخلاق والسياسة والتاريخ والأحداث والحرب والحب والسلام .
وحبه كان عارماً لكل جديد ومعاصر، يهلل عند سماعه أحاديث فيها غرابة وألغاز وأحاجٍ ونوادر وقصص مستملحة . أحب السفر كثيراً بدافع من حب مغامرة واكتشاف مجهول .
كما أحب القراءة والكتابة كثيراً يقلب في أوراق وملفات أمامه في مكتبه . وهمه أن يبني علاقات متينة مع الناس أجمعين !
ولد في برجا في قضاء الشوف ، أقليم الخروب ، العام 1938. تلقى دروسه الإبتدائية والمتوسطة والثانوية في كلية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت من 1947 إلى 1958 ، وتخرج محامياً في الحقوق في الجامعة اللبنانية العام 1962. التحق بالأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة وتخرج فيها العام 1976. ثم تابع دراسته في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة القديس يوسف حيث أحرز شهادة الدكتوراه في الآداب في العام 1983.
محامياً بالإستئناف ومستشاراً قانونياً ، مارس عمله في مكتب خاص أسسه جده الراحل أحمد البرجاوي أحد نواب الشوف السابقين المميزين ، ثم شغل المكان ذاته والده المحامي عبد العزيز سعد . علم في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية العام 1976 ، واستمر مدرساً سنوات عدة ، أحبه طلابه وتعلقوا به كثيراً وأفادوا من شروحه المستفيضة وآرائه السديدة وتطلعاته المستنيرة ، ثم غداً مشرفاً على أطروحات جامعية في جامعة القديس يوسف – بيروت ، معهد الدراسات السمعية والبيئية والمسرحية والسينمائية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية .
وكان رجل علم وأدب وقانون ، ألف الكثير من الكتب ، ووضع أبحاثاً ودراسات يربو عددها على الخمسين ، وكان أكثر ما يشغله المسرحيات التي أخذت حيزاً كبيراً من وقته وصحته واهتماماته ومشاغله .
كتبه تتصدر واجهات المكتبات ، وفي مقدمها : شارلي شابلن ، رشيد وهبي فنان عصر ومعلم أجيال ، تراث الفكر السياسي قبل الأمير وبعده وهو عرض تحليلي لكتاب ” الأمير ” لميكيافيلي ، المجموعة الكاملة لقوانين الإيجار ، من وحي ألف ليلة وليلة ، كليلة ودمنة لابن المقفع ، وغيرها من الكتب النفيسة التي أصبحت في متناول الجميع.  وكانت لديه مجموعة كتب مخطوطة كان في وده أن ينجزها ، أو يطبع بعضها ، لكن الوقت دهمه .
فإلى رحاب الله أيها الصديق الصدوق والخل الوفي . خسرناك خسارة كبرى لا تقدر بثمن !  … نقلاً عن جريدة النهار تاريخ 22 – 10 – 2010 م .
وافت المنية الأستاذ فاروق سعد الأربعاء ، وصُلي على جثمانه الخميس في جامع الخاشقجي – بيروت .

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. رحم الله الدكتور المحامي الفنان المفكر كان علم بذاته لا يماري احدا صات في زمن كثر فيه الكلام الفارغ لم يسعى الى زعامة بل كانت الزعامة تسعى امامه ولا بتبعها نعرفه مدافعا عن ظلال القران لسيد قطب رحمه الله ومحاما لحق نشر الظلال هذا خبر لا يعرفه الكثر وهذا غيض من فبض الموسوعة للمفكر العزبز المرحوم فاروق سعد وهو فخرا لبرجا ولبنان في جنان الخلد ان شاء الله تعالى

  2. تأثرت كثيرا بوفاة هذا الموسوعي الكبير
    فقد كان لي شرف الالتقاء به من قبل
    وقد وصلنا الى هنا في الكيوت خبر وفاته واصابنا الحزن الشديد
    رحم الله الفقيد

  3. لم اعرفه الا من حديث الناس عنه ، لم اعرفه من ابنه عبد العزيز وهو صديق وزميل لي في المهنة ، لم يكن يوما” يصور لي والده بهذا الحجم وهذه الرفعة في المعرفة والثقافة ، وكأني به يخاف على والده ومعلمه وقدوته من لفتة الهواء ، اما اليوم فتراني ارى الصبي قد كبر وهو يفاخر ليلا” ونهارا” بمنجزات وابداعات والده ويقول : لم يعد من شيء اخاف عليه من لفتة الهواء ، اما لفتة الهواء القديمة ذاتها فاخاف ان تعلم بالخبر المفجع فهي توضب نفسها لتصبح روحا”من ذلك السعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى