من دفاتر الإغتراب

سأحدثكم عن العزيّة

كتب د. هيثم حسن الغوش : حدّث الشاعر شوقي بزيع في قصيدته ” زعموا أن صباحاً كان ” (1978) من ديوانه ” الرحيل إلى شمس يثرب “(1992) وصدح بها الفنان مارسال خليفة لحناً وغناء : سأحدثكم عنأيمن … عن فرح الغابات11111 الفاتن ….في عينيه … وعن سحر يديه . وأنا سأحدثكم عن أيمن ، سأحدثكم عن طفل جمع برجا وفلسطين في دمه وتحوّل ربيعه الرابع فجأة إلى شتاء لا مطر فيه . وإن أردت أن أحدثكم عن أيمن الملحمة فلا بدّ لي إلا أن أحدثكم عن العزيّة ، عن هذه البرجا التي غاصت جنوباً وحطت على رفة جناحي حسون من فلسطين . سأحدثكم عن قاسم أبو خانة ، عن فرح الحياة حتى الإستشهاد . سأحدثكم عن سعدى الحلاق ، عن سمرة الإبتسامة . سأحدثكم عن ليلى ، عن الصبيّة الذي استعار ورد العنبر على ضفتي طريق العزيّة بعضاً من سحر عينيها .سأحدثكم عن يسرا قاسم أبو خانة ، أم أيمن . سأحدثكم عن محمد ومنتهى ووفاء ونهى وجمال ونهاد  قاسم أبوخانة .  سأحدثكم عن كامل علواني .سأحدثكم عن أم كامل علواني . وغيرهم ممن لا أعرف أسماءهم .

إبتدأت الحكاية في السنة الأولى من خمسينيات القرن الماضي حين انتقل قاسم أبو خانة مع زوجته سعدى الحلاق وولديه يسرا ومحمد من برجا للعمل في مزرعة لآل سلام في الحنية الجنوبيّة ، قضاء صور وقطن بلدة العزيّة المجاورة .

كبرت العائلة وأبصرت ليلى النور مع أخوتها منتهى ، وفاء ، نهى ، جمال ونهاد . توالت الأيام والسنون وبرجا تزهر في العزية مواسم ضيافة واستجمام . فكم استقبلت أم محمد الأهل والأصدقاء ، وكم من بائع متجول حطّ على مائدتها ، وكم من صياد برجاوي قصد محمد وجمال لقنص ما وفر من الطيور.

إستمرت الحياة وكبرت يسرا وتزوجت من كامل علواني ، المناضل الفلسطيني الذي حمل القضية ومات من أجلها ، ورزقا بأيمن ومحمد .2221

 

بزغ فجر الأربعاء الواقع فيه التاسع من تشرين الثاني سنة 1977 وتململت العزيّة حتى الإستيقاظ . دار كبير يتوسط حلقة البيوت ذات الطابق الأرضي التي تكوّن الضيعة . إلى الشمال الغربي بيت تظلله شجرة كزرينة .

إنه بيت أبو محمد البرجاوي ، هكذا كان يعرّف . بدأت الحياة تدب في القرية الهانئة لاستقبال يوم ككل الأيام . هكذا كان الظن إلى أن مزّق الهدوء هدير الطائرات الحربية ، طائرات العدو الإسرائيلي . ما كاد الضجيج يصل إلى الآذان حتى طغى عليه دوي انفجارات القذائف والصواريخ المتساقطة على العزيّة .

تطايرت أحجار المنازل وتناثرت معها الأشلاء البشرية . تكررت الغارات وتحولت الضيعة الشهيدة الى حفر وركام . قفز جمال من الشباك ناجياً بنفسه . أمّا محمد الذي ظنّ أنه نجا بقفزته ، تبعه حجر حطّم ساقه واستلقى في قناة الماء ناظراً إلى الحدث التاريخ .

قذف الإنفجار نهاد بعيداً ولم تستفق على جراحها إلا في المستشفى . وفاء ونهى التان كانتا في طريق العودة إلى المنزل شاهدتا ما يحدث عن بعد . حملت يسرا ابنها الرضيع محمد وسارت بين القذائف وعلى الركام قاصدة الكهف المجاور للإحتماء . وقبل أن تصل عايشت كيف طمرت حماتها ، أم كامل ، نتيجة الإنفجار الأول ، ورفع عنها الركام إنفجار آخر . إخترقت شظيّة صغيرة ظهر كامل علواني ، أبو أيمن .

كان الصاروخ الأول من نصيب بيت أبو محمد البرجاوي . قبل لحظات ، أبو محمد في الداخل يدخن النرجيلة .. أم محمد ، ليلى وأيمن في الدار . نهاد ، محمد وجمال في المطبخ . يسرا مع زوجها وابنها محمد في منزلها المجاور . إستشهد أبو محمد ، إستشهدت أم محمد ، إستشهدت ليلى واستشهد أيمن . تلقت منتهى الخبر الفاجعة في برجا .

المحصلة خمسة وستون شهيداً من أصل أربعماية شكلوا سكان العزيّة آنذك …  وزالت العزيّة عن الوجود .

عاد قاسم أبو خانة ، أبو محمد وعادت معه زوجته سعدى الحلاق وابنته ليلى إلى تراب برجا ،  وأرّخ أيمن بدمه الطاهر للملحمة التي ضاعت في ضوضاء المهاترات وغطاها غبار الزمن . وعاد الأحياء للاستقرار في برجا من جديد وأنجبت أم أيمن أيمن الثاني .

وما هذه الكلمات الا محاولة لتذكير من نسي وإخبار من لم يكن يعلم . أما الدافع الأكبر فهو شعوري عندما دبّ فيّ الحنين واستقليت سيارتي قاصداً العزّية . بعد طول عناء أرشدت الى مفرق وبقايا طريق ، سلكتها ولم أجد من العزيّة سوى صخور وأعشاب ولا أطلال ، وما زلت أسأل ولا أنتظر جواباً : أهكذا يطمس الشهداء وتمحى الملاحم ؟!!!!!

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. ان سليمان سيف انني اعرفهم جيدا كنت طفلا في ذلك الثاريخ كما انني اتزكر ليلي رحمها الله ورحم كل الشهداء كانت ام واخت كل اطفال العزيه عندما كان طفل يجرح اثر العب كانت تداويه او اذا كان في مشكل بين ولادان كانت تصلحهم وتعطيهم بعض الحلوه رحمهم الله حميعا الفاتحه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى