برجا الآنمن جراب الأمس

عراك العيش وحرارة الشوق

كتب الشيخ جمال بشاشة : بالأمس حملت أوراقي إليها لأسألها عن بيوت الحرفة المهجورة , الحياكة المنطفئة ” أنوال الحرير , في الدار , يغص فيها الغناء , فلا يطلع في بالها إلا الندب ” .

وكان قد قيل لي : إن الحاصبانية , أمينة محمد أبو صالح , المولودة عام 1903 , والدتها امرأة قمة في الصنعة التي غزت برجا منذ غابر القرون , مشت إلى برجا من حاصبيا , وماعساها تقول ؟

جاءت إلى برجا , من نول لتقف وراء نول , فما ضيعت حياتها في فراغ .

في دار الجد عبد الجليل علي الخطيب 1877 – 1943 ربضت الأنوال , وفي زواياه العتيقة تفوح غلال الخير عبقاً ونقاء .

لم تتعب الحرفة فيه , وأي تعب هذا الذي يتسرب إلى نفوس الأحرار ؟ .

قد ينضب البحر , أما معين الأمل فلا ينضب أيداً .

وددت أن لو كانت لنا أيام مثل أيامهم , وميراث في عظمة ميراثهم , وأمل ممتد لاتنطفئ قناديله صباح مساء .

تهلّل وجه عفيفة أحمد عبد الجليل الخطيب , المولودة عام 1930 ولمع خيالها بماضي الذكريات لما طلعت عليها بحديث الحرفة وتاريخها , فجعلت تدفىء سهرتنا بمواقد خواطرها وحرارة شوقها إلى هاتيك السنين , وقد طواها العمر وأسدلت عليها ستائر النسيان .

الحاصبانية وابنتها عفيفة – أم خليل – لايكاد يناهضهما في الحياكة إلا القليلات من نسوة برجا , جادتا عليها بكل الوقت بكرة وعشياً , فأعطتهما الرزق الحلال , مايقيم الأود ويحفظ الحياة والكرامة .

حدثتني أم خليل : ” كنت أخدم البيت كله , أحوك على نولي حتى أذان الظهر , ثم إلى العصر على ماكينة الخياطة , وليلاً في مناديل التطريز على ضوء الكاز . لما رحل والدي كنت صغيرة ” .

عندها اقتادها الأمر إلى عراك العيش والضرب في الأرض .

وتعجب لأمها التي مشت في دروب الحياة غير متبرمة بصروف دهرها وعضة الألم  , كيف هرولت إلى حرفتها الدرع ترد بها النوازل , وتقيها الهواجس , حملت القمح والشعير من السكسية وجوارها , والليمون باللكن من بساتين صيدا , وخبزت بالأجرة .

وكانت في الحياكة أمة وحدها , ليلها كنهارها , لاتهدأ خلف نولها فيتذمر الشيخ كامل يوسف الخطيب 1880 – 1962 مختار برجا , جارها , من طقطقة النول وجلبة العمال : يا أمينة بدنا نام … وهي ترد : ونحنا بدنا ناكل .

جدي الشيخ عبد الجليل الخطيب كان حائكاً وأبناؤه الخمسة كانوا حائكين :

والدي أحمد , وأعمامي , جمال ومحمد ونور الدين , وهم لم يتركوا ذرية من بعدهم , وعمتي أنيسة كان لها نول في دارنا , وعلى لسانها قول الشاعر حسن الجنون :

قرد وعفريت وشيطان … ما أصعب شغل الخيطان

كل ماضربنا المكوك … بيقطع سبع تمان خيطان

نزلت إلى النول وعمري اثنتا عشرة سنة , أنا وعمتي , نحوك للعكاوي محمد حسن غطاس , وأمي لحساب السيخ إبراهيم أحمد الجوزو , فيعجب الغطاس لمستوى إنتاجها فيقول لمن حوله :

شوفو حياكة الطفلة ! وشوفو حياكة محمد ! وهو أحد العمال عنده .

أم خليل حتى اليوم لم تقعد بها الهمة , ولم يندثر فيها حب العمل , فهي مابرحت تشتغل على الصنارة ملابس للأولاد الصغار , وفي تقطير ماء الزهر , تستند في ذلك إلى ماضي عهدها فتسعفها العزيمة وهي في نجوة من اليأس والهم .

وعندما دنا وقت انصرافنا وقد انتصف الليل أزجت قولتها في زوجها محمد خليل ضرار سعد 1928 – 1978 وهي تفيض بالإجلال والتقدير لإبداعه وذكائه , فليس في الناس من لايدرك أمره ” كان بو خليل يعمل للبرغوت قميص ” .

من كتاب : ” الحياكة البرجاوية , سير وعبر ” .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى