وجوهٌ من بلدتي

جولييت… خيّاطة برجاويّة من زمن التفصيل

برجا

كتبت أ. سليمة مصطفى بشاشة:

كان من حسن حظي التعرف عليها… شخصية كادحة عاشت الحياة بكل ما فيها من حزن وفرح ومن ضيق ومن فرج… وكان لي شرف زيارتها منذ سنوات قبل أن توافيها المنية منذ فترة، والتعرف عليها عن قرب في منزلها المتواضع المحاط بأشجار الصنوبر في مرج برجا.

إحترفت الخياطة حيث برعت فيها وذاع صيتها في كل نواحي المنطقة، فقلما كان يخلو منزلها من السيدات المتشوقات لقطعة خاطتها بأناملها الذهبية.

ربطها بالخياطة قصة عشق ورفقة عمر.

سيدة عصامية ذات باع طويل بحرفة امتهنتها واحترفها كثرون ممن يمتلكون خصلة الصبر وملكة التجدد.

حرفة كان لا بد منها بما أن الإنسان منذ بداية تطوره كان بحاجة لها لستر جسمه ووقايته من البرد ومن عوامل خارجية أخرى بالإضافة إلى حاجته بإشباع غروره أحياناً وتمتعه بالرفاهية من خلال إقتناء قطع مميزة.

هذه الحرفة التي يواجه أصحابها وخصوصاً في وقتنا الحاضر خطر الإندثار في وجه التكنولوجيا الجديدة وبوجود معامل الألبسة الجاهزة والمنتجة لمختلف أنواع القماش، بسبب ذلك إنحصرت أعمال الخياطين بالتصليحات والخياطة البسيطة، وأنا هنا أتكلم عن الخياطين العاديين وليس عن مصممي الأزياء المشهورين، لكن هذا لم يمنع لجوء بعض الناس إليهم لتفصيل ملابسهم وبالتحديد ملابس السهرات والحفلات.

وصاحبة هذا الكار الذي أتحدث عنه كانت خير دليل على التميز والبراعة، لقد عهدتها دائماً صاحبة وجه مبتسم ومن نظرة وحيدة إليها يتكشف لك داخلها المشرق، وعند مجالستها لا تشبع من حديثها الأنيق المطيَّب ببعض الحكم والأقوال التي اغترفتها من فيض الحياة وتجاربها.

ولكي أعرف المزيد عن حياتها قصدت ابن أختها الأستاذ شوقي البستاني فقال عنها: هي جولييت نجيب شلالا من مواليد منطقة الدبية الشوفية سنة ١٩٣٨ والدتها سعدى البستاني، كان والدها عريفاً في قوى الأمن الداخلي في فرقة الخيالة، إنتقلت للعيش في مرج برجا مع عائلتها سنة ١٩٤٣، ومنذ الصغر برزت عندها موهبة الخياطة فكانت تصنع الألعاب وتخيط لهم الملابس حتى لاحظت جدتها «تريزا» هذا الأمر فعملت على صقل موهبتها فعلّمتها أسس الخياطة حتى أتقنتها وهي في الثامنة عشرة من عمرها وصارت ضليعة في هذا المجال.

يضيف الأستاذ شوقي قائلاً: تعلمت جولييت في مدرسة برجا الرسمية للبنات حتى أخذت الشهادة الابتدائية السرتيفيكا.

فقدت والدتها وهي في سن السابعة فتزوج والدها من امرأة ثانية كانت أكبر منه ولم يرزقا بأولاد، وكان لزوجة أبيها أخت فسكنت معهم في نفس المنزل.

كانت علاقتهم بها هادئة وفريدة، فقد عاملتها زوجة أبيها بالحسنى وكأم لها، فبادلتهما الحب والاهتمام والرعاية ولم تنس جولييت الجميل فاهتمت بها وبأختها عند كبرهما وكتبتا لها أرزاقهما قبل مماتهما كعرفان لها، حتى أنها مارضيت أن تتزوج لتقوم بخدمتهما وتسهر على شؤونهما.

قبل العام 1982 كانت صبايا برجا يذرعن درب عين الزغير ذهاباً وإياباً، يقصدن بيتها الواقع على كتف وادي الصفا آخر مرج برجا باتجاه بعاصير، والذي تظلله صنوبرة بلدية معمرة.

ماخاطته يدا جولييت كان وكأنه ماركة يقبل عليها الناس بلهفة لجودتها وجمالها وأناقتها.

عاشت جولييت أحداثاً مأساوية، فبعد اندلاع الحرب تركت منزلها قسراً في مرج برجا هي وعائلتها ونزحوا إلى بيروت، وهناك في سنة ١٩٨٠ تعرضت لحادث سير فظيع بينما كانت برفقة زوجة أبيها، ظلت على إثره في غيبوبة لمدة شهرين وخضعت بسببه لعملية خطيرة في الجمجمة.

ويقول شوقي ممازحاً: ربما كان هذا السبب المباشر لإكتسابها التفكير والعقلية الفلسفية العنيدة التي كانت تتميز بها، واستمرت هناك في خياطة الملابس حتى سنة 1992 حيث اعتزلت هذه الحرفة.

عام 1998 عادت جولييت إلى بيتها وموطن ذكرياتها وملعب صباها، إلى مرج برجا.

عادت جولييت لتستقطب معظم نساء برجا وبعاصير ولتستعيد ألق الحرفة التي صارت على مشارف الإندثار، وكانت تخيط الملابس على أنواعها وخاصة فساتين الأعراس بالإضافة إلى قيامها بأعمال الحياكة.

ويتابع الأستاذ شوقي القول إنها استطاعت بناء علاقات احترام متبادل بينها وبين زبائنها وغيرهم حيث كان الجميع يحبونها نظراً لكرمها وحسن معاملتها لهم حتى مع من كانوا يهتمون بأرضها وحديقتها المختلفة الأصناف والألوان.

ذهب بها المرض العضال في شباط 2018، وكانت رتبت أمورها إذا ما شاخت وأخذ الكبر منها كل مأخذ أن تنتقل إلى دير القديسة رفقا في قرية جربتا بالبترون ولكنها ماقدرت على مفارقة بيتها فماتت بين أهلها وضمتها الأرض التي أحبتها في برجا.

طريق مرج برجا بعاصير سوف تفتقد جولييت صباح كل يوم، وهي التي ما انقطعت عن ممارسة رياضة المشي عليها كل يوم.

لسان حال من عرفها يقول: سقى اللهُ أيامَ كنا مانرضى أن نلبس إلا من خياطة جولييت.

عن “برجا الجريدة” العدد الثاني نيسان 2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى